خطبة عن القرين ،وحديث ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ)
مايو 10, 2025خطبة عن (اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ)
مايو 12, 2025الخطبة الأولى (السعْيُ المَشْكُورُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) الإسراء، وقال الله تعالى: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) (12): (22) الانسان.
إخوة الإسلام
السعْيُ المَشْكُور: هو السعي المقبول، وشكر الله للعبد، وثناؤه عليه، وإثابته إياه، وقيل: السّعي ثلاثة: سعي مشكور: كلّ ما فيه مرضاة الله، فهو سعيٌ يشكره الرحمن، وسعي مأزور: كل ما فيه معصية الله، فسعي وزرٍ وخسران، وسعي ضائع: كل إسراف في مُباح فهو التهاءٌ ونقصان. ويدخل في السعي المشكور: طاعة الله في أمره ونهيه، والإقرار بوحدانيته، والتصديق بوعده ووعيده، والبراءة من كل الْأنداد والآلهة الْأخرى.
والسعْيُ المَشْكُور: يكتب الله تعالى لفاعله سعيه كله: صغيره وكبيره، قليله وكثيره، قال الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) (94) الانبياء، وقال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) (195) آل عمران،
وقول الله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (19) الإسراء، فيه بيان أن السعي المشكور له شروط، لا بد أن تتوافر فيه، فمن شروط السعي المشكور (من خلال الآية الكريمة): (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ) فيريد المرء بعمله الآخرة، أي ينوي بعمله الصالح الثواب والجزاء في الدار الآخرة، فإن لم تحصل هذه الإرادة، ولم تكن هذه نيته، فلا ينتفع المرء بذلك العمل، لقوله تعالى: {وَأنَ ليَّسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى} (39) النجم، وقال تعالى: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (200): (202) البقرة، وقال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (20) الشورى، وفي صحيح البخاري: (أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَبِى كَبْشَةَ الأَنْمَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : «مَثَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «فَهُمَا فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ عِلْمًا وَلاَ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ».
ومن شروط السعي المشكور: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) فيكون العمل عملا صالحا، به ينُال ثواب الآخرة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرَبات والطاعات، وكان موافقا لسنة ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ اللَّهَ قَالَ ..، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)، ومن أمثلة الأعمال الصالحة، والسعي المشكور: ما جاء في صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «كُلُّ سُلاَمَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ، يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ»، وفي صحيح البخاري: (عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ ». فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ «يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ». قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ «يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ». قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ. قَالَ «فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ»، وفي سنن الترمذي: قال صلى الله عليه وسلم: (يَقِي أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ أَوِ النَّارِ وَلَوْ بِتَمْرَةٍ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَقِى اللَّهَ وَقَائِلٌ لَهُ مَا أَقُولُ لَكُمْ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا فَيَقُولُ بَلَى. فَيَقُولُ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالاً وَوَلَدًا فَيَقُولُ بَلَى. فَيَقُولُ أَيْنَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ فَيَنْظُرُ قُدَّامَهُ وَبَعْدَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ لاَ يَجِدُ شَيْئًا يَقِى بِهِ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ لِيَقِ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)
ومن شروط السعي المشكور: الإيمان: لقوله تعالى: (وَهُوَ مُؤمِن)، وهذا الشرط معتبر، لأن الله تعالى لا يقبل العمل بدون إيمان، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (124) النساء، وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (97) النحل، وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) (112) طه، وفي سنن النسائي: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِىَ بِهِ وَجْهُهُ»، فمن شروط السعي المشكور: أن يكون خاليا من الرياء، والسمعة، والعجب، والمخيلة، فلا رؤية نفس، ولا طلب عوض، بل يكون خالصا لوجهه تعالى، لا يشاركه في ذلك شيء،
أيها المسلمون
والسعي المشكور له صور كثيرة ومتعددة، فمن صور السعي المشكور: السعي علي المعاش :فالسعي علي المعاش يحظى بمنزلة خاصة، واحترام عظيم، وفي سنن البيهقي: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ بِهِمْ رَجُلٌ فَتَعَجَّبُوا مِنْ خُلُقِهِ فَقَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَتَوُا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- :«إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْهِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدٍ صِغَارٍ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيُغْنِيَهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»،
وقد أمر القرآن الكريم بالعمل، والسعي علي المعاش، فقال تعالي: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك: (15)، وأخبرنا ربنا أنه جعل لنا النهار من أجل الرزق والسعي عليه فقال تعالي: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) النبأ: (10)، (11)، وجعل الله تعالى العمل والسعي علي المعاش في منزلة الجهاد في سبيل الله، فقال تعالي: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (20) المزمل،
وقد ربي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه علي الكسب، والسعي في حلال، وأن اليد العليا خير من اليد السفلي، ففي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ»، وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِىَ بِهِ مِنَ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»، وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُهُ فَقَالَ «لَكَ فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ». قَالَ بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَدَحٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ. قَالَ «ائْتِنِي بِهِمَا». قَالَ فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ «مَنْ يَشْتَرِى هَذَيْنِ». فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ. قَالَ «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ». مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِىَّ وَقَالَ «اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ». فَفَعَلَ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشَدَّ فِيهِ عُودًا بِيَدِهِ وَقَالَ «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَلاَ أَرَاكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا». فَجَعَلَ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ «اشْتَرِ بِبَعْضِهَا طَعَامًا وَبِبَعْضِهَا ثَوْبًا». ثُمَّ قَالَ «هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ وَالْمَسْأَلَةُ نُكْتَةٌ فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِذِى فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ».
ومن صور السعي المشكور، والعمل المحمود: السعي في قضاء حوائج الناس: فهو من الأخلاق الإسلامية العالية والرفيعة، التي ندب إليها الإسلام، وحث المسلمين عليها, وجعلها من باب التعاون على البر والتقوى، الذي أمرنا الله تعالى به، ومن السعي في قضاء حوائج الناس: مساعدة اليتيم والمسكين والأرملة، وغيرهم من أصحاب الحاجات، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ – وَأَحْسِبُهُ قَالَ – وَكَالْقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لاَ يُفْطِرُ»، ومن سخره الله تعالى لقضاء حوائج الناس، فقد أنعم عليه بنعمة حُرم الكثير منها, وقد روى الطبراني: (عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ: قاَلَ رَسُولُ اللِه صَلىَّ اللَّهّ ُعَلَيهِ وَسَلمَّ: {إِنَّ لِلَّه ِأقَوَامًا اختصَّهُم بِالنعِمِ لِمَنَافِع العِبَادِ، وَيقِرُّهَا فِيهِم مَا بذَلَوُهَا، فَإذِاَ مَنعَوُهَا نزَعَهَا عَنهُم وَحَوَّلهَا إلِى غَيرِهِم}.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (السعْيُ المَشْكُور)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنا المثل والنموذج الأعلى في الحرص على الخير والبر والإحسان, وفي سعيه لقضاء حوائج الناس وبخاصة الضعفاء والأيتام, والأرامل, ففي صحيح مسلم: (عَن أنَسَ رضي الله عنه أنَّ امرَأةَ كَانَ فِي عَقلِهَا شَيء، فَقَالتَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ لِي إلِيكَ حَاجَةً ، فَقَا لَ : يَا أمَّ فلُا نَ ،انظُرِي أيَّ السِكَكِ شِئتِ ،حَتىَّ أقَضِيَ لكِ حَاجَتكِ، فخَلا َ مَعهَا فِي بعَضِ الطُّرُقِ، حَتىَّ فرَغَت مِن حَاجَتهِا).
ومن صور السعي المشكور، والعمل المحمود: السعي في نصرة المظلوم: وقد حكي القرآن الكريم موقف مؤمن آل فرعون، عندما علم بتآمر فرعون وقومه علي كليم الله موسي عليه السلام، فخرج يسعي لكي يقوم بواجبه تجاه المظلوم، مرة بنصح أهل الشر، وتحذيرهم من الظلم، فقال تعالي: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) (28)، (29) غافر، وهكذا ينبغي علي كل مسلم أن يسعي لنصرة المظلوم، لما لهذا الأمر من أجر وثواب عظيم عند الله تعالي، روى أبو داود: (أن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُولاَنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلاَّ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ».
ومن صور السعي المشكور، والعمل المحمود: السعي في تبليغ دين الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فقد أرسل الله الرسل لتبليغ الناس دعوته عز وجل، فيجب على المسلم أن يبلغ ما لديه من العلم، قَلَّ ذلك أو كَثُر، لمن لم يعلمه، من دون تحديد بوقت أو قدر من العلم سوى الحاجة إلى بيان ما عنده، وتبليغه، وقد يتعين عليه إذا لم يوجد من يقوم بالبلاغ والبيان غيره؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعملا بما رواه البخاري: (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً»، وما رواه الترمذي: (عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»، ومما توعد الله به كاتم العلم، بقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} البقرة:159،
الدعاء