خطبة عن ( الأَمَانَةَ )
يوليو 1, 2017خطبة عن ( المرأة في الإسلام واليهوديّة والمسيحيّة)
يوليو 1, 2017الخطبة الأولى ( السلف وتعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) الفتح (29) ، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضى الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ » . وفي صحيح مسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِى مَا يُوعَدُونَ ». وروى الترمذي بسند حسن : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِى فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّى أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ ».
إخوة الإسلام
إن أفضل الناس في كل أمة من الأمم هم من صحبوا رسولهم مؤمنين به، مدافعين عنه، داعين إلى دينه؛ فمن صحب موسى مؤمنا به؛ مدافعا عنه؛ فهو أفضل الناس في تلك الفترة، وكذلك من صحب عيسى مؤمنا به، مدافعا عنه، فهو أفضل الناس في تلك الفترة، ومن صحب محمدا عليه الصلاة والسلام فهو أفضل الناس في تلك الفترة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل الناس على الإطلاق بعد أنبياء الله ورسله عليهم السلام. وذلك لأنهم صحبوا أفضل نبي على الطلاق، وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا أفضل الأصحاب على الإطلاق، فهم خير هذه الأمة، وهم السابقون إلى الإيمان والهجرة، والجهاد والنصرة؛ فقد صدّقوه حين كثر المكذبون، واتبعوه إذ قل المتبعون، وتحملوا في سبيل ذلك هجر الأوطان، ومفارقة الأهل والولدان، ومعاداة العشيرة والخلان، ومهما عمل من بعدهم فلن يبلغوا مبلغهم، ولن يحوزوا فضلهم، أو يدركوا سبقهم؛ ولكنهم يلحقون بهم في الفوز والجنة، لا في الفضل والدرجة. وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ومسلم: (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضى الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ » . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: ( لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره)، فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم إيمانا ويقينا، وأكثرهم تضحية وبذلاً، فاستحقوا ما نالوا بفضل الله تعالى عليهم، ورحمته بهم، واصطفائه لهم؛ ليكونوا أحباب خاتم رسله عليه الصلاة والسلام، والأخبار في تصديقهم ومحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتوقيرهم وتعظيمهم إياه، ووفائهم وفدائهم له عليه الصلاة والسلام، ودفاعهم عنه، وتقديمه على كل محبوب سوى الله تعالى كثيرة ، ففي محبتهم له صلى الله عليه وسلم يجيب علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن سؤال نصه : “كيف كان حبّكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟” فيجيب بقوله: “كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ” . وهذا عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول كما في صحيح مسلم (وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلاَلاً لَهُ وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لأَنِّى لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ ) ،وهذه المحبة تجسدت واقعا عمليا، فليست مجرد دعوى كلامية ليس عليها برهان، وليست زعما كاذبا، أو ظنا مشكوكا فيه؛ بل كانت محبة صادقة، حيث كانوا إذ جدَّ الجد، ودارت رحى الحرب، وحضرت المنايا ميدان المعركة تخطف من أمرت به؛ كانت أجساد الصحابة رضي الله عنهم فداء له عليه الصلاة والسلام، وسيوفهم أسبق إلى المشركين من أن يصل الأذى إليه صلى الله عليه وسلم، وفي المغازي من بدر إلى حنين مواقف مشهورة، وبطولات مشهودة، تبرهن أن القوم صدقوا في محبتهم له عليه الصلاة والسلام. وليست تلك المحبة، والتضحيات في سبيلها موقوفة على مواطن العز والانتصار؛ بل ظهرت حتى في حال الهزيمة والانكسار، واسألوا أُحُدا ينبئكم عن ذلك، ويخبركم أن سبعة من الأنصار استماتوا في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحاط به المشركون حتى قتلوا عن آخرهم، ولهم الجنة، فقد روى مسلم في صحيحه (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ ». فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ ». فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِصَاحِبَيْهِ « مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا ». فكان هؤلاء السبعة ممن ردوا المشركين عنه حتى جادوا بأرواحهم فداء له عليه الصلاة والسلام . وشُلَّت يد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في أحد من شدة صموده دفاعا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه رجلا راميا شديد النزع كسر يوم أحد قوسين أو ثلاثا، ففي الصحيحين (عَنْ أَنَسٍ – رضى الله عنه – قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَىِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلاً رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ بِجَعْبَةٍ مِنَ النَّبْلِ فَيَقُولُ انْثُرْهَا لأَبِى طَلْحَةَ . قَالَ وَيُشْرِفُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، لاَ تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ ، نَحْرِى دُونَ نَحْرِكَ ) ، ولم تكن محبتهم له عليه الصلاة والسلام حكرا على الرجال من الصحابة رضي الله عنهم، بل كان لنسائهم رضي الله عنهن حظ وافر من تلك المحبة؛ ابتداء بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن حين خيرهن الله تعالى بين البقاء معه عليه الصلاة والسلام والصبر على شظف العيش، وقلة المئونة، وشدة الحال، وبين الفراق والتمتع بطيبات الدنيا، فاخترنه عليه الصلاة والسلام على متاع الدنيا، ففي الصحيحين : (أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَتْ لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ « إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ » . قَالَتْ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ ، قَالَتْ ثُمَّ قَالَ « إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ) إِلَى ( أَجْرًا عَظِيمًا ) » . قَالَتْ فَقُلْتُ فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ، قَالَتْ ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – مِثْلَ مَا فَعَلْتُ ) ، كما كان للصحابيات الأخريات رضي الله عنهن حظهن من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وتقديمه على الآباء والأزواج والأبناء والإخوان؛ كما فعلت إحدى الأنصاريات لما قتل أقرب الناس إليها في أحد فما سألت إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أنس رضي الله عنه: “لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، قالوا: قتل محمد حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة فخرجت امرأة من الأنصار متحزمة فاستقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم استقبلت به أول، فلما مرت على آخرهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك أخوك زوجك ابنك، وهي تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أمامك، حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أبالي إذ سلمت من عطب” رواه الطبراني في الأوسط
أيها المسلمون
وقد كان أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم أسرع الناس امتثالا لما يقول، روى أبو داود في سننه (عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ ». قَالَ نَافِعٌ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ ) ، ومن تعظيم الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم له: أنهم يلتزمون الأدب بحضرته، ولا يتكلمون أو يفعلون الفعل إلا بإذنه؛ حتى أنه بلغ من أدبهم معه عليه الصلاة والسلام أن أحد الرواة يُشبِّه هدوءهم، وسكينتهم بمن على رؤوسهم الطير، ففي مسند أحمد (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى جِنَازَةٍ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْقَبْرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ )، ولم تكن سكينتهم تلك حال حضور الجنازة فحسب، أو لمكان القبر من القلب؛ إذ كان ذلك حالهم حتى في مجلسهم معه أثناء تحديثهم وتعليمهم أمور دينهم، قال أسامة بن شريك رضي الله عنه: “كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسنا الرَخَم، ما يتكلم منا متكلم إذ جاءه ناس من الأعراب، فقالوا: يا رسول الله أفتنا في كذا، أفتنا في كذا” صحيح ابن حبان . بل وكان الواحد منهم إذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذته هيبة عظيمة، حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إجلالا لحديثه، كما روى عمرو بن ميمون فقال: ما أخطأني عشية خميس إلا آتي عبد الله بن مسعود فيها، فما سمعته بشيء قط يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ذات عشية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نكس فرفع رأسه، فرأيته محلول أزرار قميصه، قد انتفخت أوداجه، واغرورقت عيناه، فقال: أو فوق ذلك أو دون ذلك أو قريبا من ذلك أو شبه ذلك” . وبلغ من أدبهم معه أنهم يقرعون بابه إن أرادوه بالأظافير، وما كانوا يرفعون أصواتهم بحضرته عليه الصلاة والسلام، ومن كان جهوري الصوت منهم جاهد نفسه على خفض صوته بعد نزول آية الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: “وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي صلى الله عليه وسلم، ويحترموه ويوقروه، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، أي ينادونه باسمه: يا محمد، يا أحمد، كما ينادي بعضهم بعضا. وإنما أمروا أن يخاطبوه خطابا يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض، كأن يقولوا: يا نبي الله، أو يا رسول الله، ونحو ذلك” . وبعد أن نزلت هذه الآية كان عمر بن الخطاب؛ كما قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ . وفي صحيح البخاري : (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضى الله عنه – أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ . فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ ، فَقَالَ مَا شَأْنُكَ فَقَالَ شَرٌّ ، كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا . فَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ فَرَجَعَ الْمَرَّةَ الآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ ، فَقَالَ « اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ »
أيها المؤمنون
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم مأذونا لهم في مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يزيد على ثلاث مرات، ولربما وُفق بعضهم في إصابة الحق كما أصابه عمر رضي الله عنه غير مرة؛ ومع هذا الإذن في المراجعة لهم فإنه كان أشدّ شيء على الواحد منهم أن يراجعه في أمر ثم يكون الحق بخلافه، وقد وقع ذلك لعمر رضي الله عنه الذي كان يصيب الحق كثيراً؛ إذ راجع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فكان الحق على خلاف ما أراد، ففي مسند أحمد : ( فَلَمَّا الْتَأَمَ الأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْكِتَابُ وَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَلَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ قَالَ بَلَى. قَالَ فَعَلاَمَ نُعْطِى الذِّلَّةَ فِى دِينِنَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا عُمَرُ الْزَمْ غَرْزَهُ حَيْثُ كَانَ فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ عُمَرُ وَأَنَا أَشْهَدُ. ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ قَالَ « بَلَى ». قَالَ فَعَلاَمَ نُعْطِى الذِّلَّةَ فِي دِينِنَا فَقَالَ « أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي ». ثُمَّ قَالَ عُمَرُ مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّى وَأَعْتِقُ مِنَ الَّذِى صَنَعْتُ مَخَافَةَ كَلاَمِي الَّذِى تَكَلَّمْتُ بِهِ يَوْمَئِذٍ حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْراً ).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (السلف وتعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن أخبار التابعين وتابعيهم، في تعظيمهم وتوقيرهم للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا أحدهم يبكي إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده محبة له وتوقيرا وإجلالا، سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى: “متى سمعت من أيوب السختياني؟ فقال: حج حجتين، فكنت أرمقه ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه” . وهذا الإجلال للنبي صلى الله عليه وسلم سجية عند السلف الصالح؛ لأنهم قد عرفوا قدره ومنزلته، وعلموا ما له من الفضل عليهم، كما حدث بذلك الإمام مالك رحمه الله تعالى عن جماعة من شيوخه رأى من حالهم ما رأى عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، روى مصعب بن عبد الله رحمه الله تعالى فقال: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمدَ بنَ المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة ، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيُنظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه؛ هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري وكان لمن أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس ويتركوه” . وهذا الحسن البصري رحمه الله كان يبكي إذا حدث بحديث الجذع الذي بكى لما فارقه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: “يا عباد الله، الخشبة تحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ شوقا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه” . ولم يكن توقيرهم له عليه الصلاة والسلام في حياته فحسب، بل توقيرهم له في حياته وبعد موته صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يرفعون أصواتهم في مسجده إجلالاً وتوقيراً له عليه الصلاة والسلام؛ ففي صحيح البخاري (عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ اذْهَبْ فَأْتِنِى بِهَذَيْنِ . فَجِئْتُهُ بِهِمَا . قَالَ مَنْ أَنْتُمَا – أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا قَالاَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ . قَالَ لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لأَوْجَعْتُكُمَا ، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -) ، بل كان بعض التابعين يرى أن رفع الصوت في مجالس الحديث كرفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث حديثه، يقول حماد بن زيد رحمه الله: “كنا عند أيوب السختياني فسمع لغطا، فقال: ما هذا اللغط؟ أما بلغهم أن رفع الصوت عند الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرفع الصوت عليه في حياته” . وكان من توقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يحدثون بحديثه إلا وهم على أحسن حال وهيئة، ويربون أتباعهم على ذلك، قال أبو سلمة الخزاعي رحمه الله: “كان مالك بن أنس إذا أراد أن يخرج ليحدث توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ولبس قلنسوة، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقر به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويحدث أحمد بن سنان عن مجلس وكيع بن الجراح في التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: لا يُتحدث في مجلسه، ولا يُبرى قلم، ولا يَتبسم، ولا يقوم أحد قائماً، كانوا في مجلسه كأنهم في صلاة فإن أنكر منهم شيئاً انتعل ودخل” . ومر الإمام مالك على أبي حازم وهو يحدث فجازه، فقيل له، فقال: لم أجد موضعاً فكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم” . وكان محمد بن سيرين: يتحدث فيضحك فإذا جاء الحديث خشع. وجاء عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه سئل عن حديث وهو مضطجع في مرضه فجلس وحدث به، فقيل له: وددت أنك لم تتعن، فقال: كرهت أن أحدث عن رسول الله وأنا مضطجع
الدعاء