خطبة عن قوله تعالى (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)
ديسمبر 1, 2018خطبة عن حديث (إِذَا اسْتَعْطَرَتْ المرأة)
ديسمبر 2, 2018الخطبة الأولى : السنن الربانية (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 43]. وقال الله تعالى : (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ) (76) ،(77) الاسراء ،وقال الله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) (85) غافر
إخوة الإسلام
إن هذا الكونَ الفَسيحَ وما حوَاه من عظيمِ صُنعِ الله، وبَديعِ آياتِه، وحكيمِ أفعالِه يَسيرُ وفقَ سُننٍ ربَّانيَّةٍ وقواعِد مُتقَنَة، لا يَحيدُ عنها ولا يَمِيلُ، في إحكامٍ وثباتٍ واستِقرارٍ، لو اختَلَّ شيءٌ منها طَرفةَ عينٍ لفسَدَت السماواتُ والأرضُ ومَن فيهنَّ ، والسُّننُ الإلهيَّة ثابِتةُ مُضطرِدةُ شامِلةُ فهي لا تُحابِي أحدًا دُون أحدٍ، ولا تُجامِلُ أمَّةً دُون أُخرى، فكلُّ من حقَّت عليه سُنَّةُ الله فهي واقِعةٌ به ولا شكَّ، فقد عصَى الرُّماةُ أمرَ رسولِ الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في أُحُد، فهُزِمُوا مع أنهم كانُوا على الحقِّ؛ لأن سُنَّةَ الله لا تُحابِي أحدًا. وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى كثيرًا من السنن في كتابِه الكريم، وعلى لِسانِ رسولِه – صلى الله عليه وآله وسلم -، وأمرَنا سبحانه وتعالى أن ننظُرَ ونتأمَّلَ في الآياتِ والنُّذُر، وأحداثِ التاريخ والقصص القُرآنيِّ؛ لكَي تنشَأَ عقولٌ ناضِجةٌ مُدرِكةٌ لهذه السُّنن التي تحكمُ المُجتمعَ الإنسانيَّ وطبائِعَ الأشياء، ولتكون مُؤهَّلةً لتفسيرِ ظواهِرِ الكون، والنظَر والاعتِبار بمآلاتِ الأمورِ وعواقبِها ، وموازِينِ النُّهوض والسُّقوطِ، والتداوُل الحضاريِّ، قال الله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران: 137]، وقال الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [النساء: 26]. ولقد أبدعَ المُسلمون الأوائِلُ في الحضارة والتقدُّم والرُّقِيِّ؛ لاكتِشافهم هذه السُّنن، ولحُسن تعامُلهم معها والاستِفادة منها، فلما تخلَّوا عن ذلك، ولما غفَلَت الأجيالُ المُتعاقِبةُ من بعدهم عن سُنن الله، ولم يُحسِنُوا التعامُلَ معها، جاءَت الأُمم الأُخرى وهي كافرة فأمسَكَت بناصِيةِ الحضارة والقوَّة، مُستفيدةً من علومِ المُسلمين وتجاربِهم ، واكتِشافهم سُنن الله في الكَون والحياة، فعمِلُوا على وفقِ هذه السُّنن الربَّانيَّة، فاستحَقُّوا طرَفًا من العطاء الربَّانيِّ المفتُوح لكلِّ من وافَقَ هذه السُّنن، وأحسنَ الاستِفادةَ منها، قال الله تعالى : (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء: 20]. وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة سوف يصيبها من السنن ما أصاب من كان قبلها ، ففي سنن الترمذي بسند حسن (عَنْ أَبِى وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ »، وفي رواية لابن حبان أن (رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح رسول الله مكة خرج بنا معه قبل هوازن حتى مررنا على سدرة الكفار سدرة يعكفون حولها ويدعونها ذات أنواط قلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر إنها السنن هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم لتركبن سنن من قبلكم
أيها المسلمون
ومن السنن الربانية : سنة الاستدراج : والاستدراج هو الأخذ بالتدرج، فكلما أذنب العبد زاده الله من النعم، وأنساه التوبة، فيدنيه من العذاب قليلاً قليلاً، ثم يصبّه عليه صبًّا. يقول الله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 182]، وقال الله تعالى: (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُون وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم: 44]. لهذا لا ينبغي أن نغتر بما أوتي الكفار من نعم في الدنيا؛ لأن الله يستدرجهم ويملي لهم، قال الله تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ) [المؤمنون: 55- 56]. والاستدراج لا يكون للكفار فقط، وإنما يقع على الكافر والمسلم على حد سواء، فقد جاء عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ –رضي الله عنه- عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 44] (رواه أحمد). ومعنى الحديث: أنك إذا رأيت الله -تبارك وتعالى- يعطي العبد من النعم ويزيده منها، وهذا العبد لا يزال مقيمًا على معاصيه، فاعلم أن ذلك استدراج من الله تعالى لذلك العبد الذي اغتر بتلك النعم، وظن أن الله تعالى راضٍ عنه. وقد يسأل سائل: متى يكون العطاء من الله استدراجًا؟ ومتى يكون إنعامًا؟ ، والجواب : إذا أعطاك الله لأنك شكرته وحمدته فهذا إنعام؛ لأن الله وعد بالزيادة لمن شكر فقال: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7]، وأما إذا أعطاك الله وأنت لا تزال مقيمًا على معاصيك، فاعلم أن ذلك استدراج؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ”. فإذا رأيت الله -تعالى- يوسّع على إنسان وهو ظالم، ومع ذلك تزداد رتبته، وتزداد منزلته، وتزداد ثرواته وخيراته، فلا تظن أن ذلك لكرامته على الله، خصوصًا إذا كان يزدادُ في الوقت ذاته طغيانًا ومعصية، وإنما ذلك من باب الاستدراج.
ومن سُنن الله الثابِتة ( سنة النصر والتمكين ) وذلك بنَصر دينِه وشَرعِه وأوليائِه وحِزبِه، وسُنن نُزولِ العذابِ وإهلاكِ الأُمم، وقد جاء التأكيدُ على أن التوحيدَ والعملَ الصالِحَ هو السبيلُ الأوحَدُ لنَصر الأمةِ وتمكينِها في الأرض، مع الإعداد والقوَّة الماديَّة، قال الله تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النور(55) :(57) ، وقال الله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60]. وبيَّن القرآنُ أن أعداءَ الأمة لهم وقتٌ وأجلٌ مُعيَّن، فإذا جاءَ أجَلُهم نزلَ بهم العذابُ، وقد يشُكُّ البعضُ في ذلك؛ لما يرَى من تطاوُلِ أُمم الكُفر واستِعلائِها، وما علِمُوا أن ذلك يجرِي وفقَ سُنَّة ربَّانيَّة، وأن سُنَّة الله في إهلاكِ الظالِمين والطُّغاة قد تطُولُ، ولما تتحقَّقُ على أرضِ الواقِعِ، وقد تذهبُ أجيالٌ وتأتي أجيالُ، ثم تقَعُ سُنَّةُ الله في الظالِمين والطُّغاة، فلا يستأخِرُون عنها ولا يستقدِمُون. ودعوةُ المظلُوم ينصُرُها الله ولو بعد حينٍ. قال الله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (13)، (14) إبراهيم ، ومن السُّنن الربَّانيَّة : ( أن شكر النعم هو سبيل دوامها ، والعكس : فكفر النعم سبيل زوالها ) : قال الله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، ويكون الشكر بتحقيق أركانه ، وهي شكر القلب ، وشكر اللسان ، وشكر الجوارح . قال ابن القيم – رحمه الله : الشكر يكون : بالقلب : خضوعاً واستكانةً ، وباللسان : ثناءً واعترافاً ، وبالجوارح : طاعةً وانقياداً . وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ) .رواه مسلم ،ومن السنن : ( أن النزاع والاختلاف والفرقة تؤدي إلى الهزيمة والفشل والضياع ، والوحدة والاتحاد والتماسك يؤدي إلى النصر ) قال الله تعالى : (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46]. وفي صحيح البخاري : (وَلاَ تَخْتَلِفُوا ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا » ، وأن مُخالفةَ الرسولِ – صلى الله عليه وآله وسلم -، وعِصيانَ أوامِرِه أوسَعُ أبوابِ الفشَلِ والهزيمةِ، فقد هزم المسلمون في احد حين خالفوا أمره ، وهي سنة باقية إلى يوم القيامة ، قال الله تعالى 🙁فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (63) النور ، ومن السنن : ( أن التغييرَ للخير والشرِّ لا يحصُلُ إلا إذا ابتدَأَ به العبدُ نفسُه )، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11] ؛ وقال الله تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (53) الانفال ، فالبشرُ هم المسؤُولون ابتِداءً عن الصلاحِ والإصلاحِ، وهم المسؤُولون كذلك عن الفسادِ والانحِطاط. وفي الحديث القدسي كما في صحيح مسلم : (وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّى شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّى ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً »
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية : السنن الربانية (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن السُّنن الربَّانيَّة: سُنَّةُ ( المُداوَلَة ) بين الناس؛ فيوم رخاءٌ ويوم شدَّة، ويوم نصرٌ ويوم هزيمة، قال الله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) [آل عمران: 140]. ومن حكمة سُنَّة المُداوَلَة : أن يظهرَ الخبيثُ من الطيب ، والصادق من الكاذب، قال الله تعالى : (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران: 179]. ومن السنن : أن فشُوَّ الظُّلم والبغي، وغِياب العدل، وانتِشار المعاصِي والذنوبِ، والمُجاهَرة بها، والتَّرَفَ والإسرافَ من أعظم أسبابِ تغيُّر الأحوال، وزوال النِّعَم، وفُجاءَة النِّقم، ونقصِ العافِيَة والأرزاقِ، وقسوَة القلوبِ، وتناكُر النفوسِ وتباغُضِها، وتسليطِ بعضِ المُسلمين على بعضٍ بالقولِ والفعلِ. قال الله تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) [النحل: 45- 47]. قال ابنُ جريرٍ – رحمه الله -: “يعني: أو يُهلِكَهم بتخوُّفٍ، وذلك بنقصٍ من أطرافِهم ونواحِيهم الشيءَ بعد الشيء؛ حتى يُهلِكَ جميعَهم”. وقال الله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص: 59]، وقال الله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) [المائدة: 13]، وقال الله تعالى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) [المائدة: 14]، وقال الله تعالى : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16]. وفي الصحيحين : « إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا »
ومن السُنن: (سُنَّةُ المُدافَعَة ) : وهي أن يدفعَ الله الشرَّ بالخيرِ، والضلالَ بالهُدى، والمُفسِدين بالمُصلِحين، وهي من أعظم السُّنن التي تحفَظُ نِظامَ الكَون، وتحفَظُ الناسَ من الفسادِ والهلاكِ العامِّ، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251]. والمُسلمُ الواعِي الذي يفقَهُ هذه السُّنن ينتفِعُ بها في حياتِه ومعاشِه، ويعرفُ طُرقَ ووسائِلَ العِزَّة والحياةِ الكريمة، وقد جرت سنة الله -تعالى- أن تكون المواجهة بين أوليائه وأعدائه مستمرة، فيدال هؤلاء على هؤلاء تارة، وهؤلاء على هؤلاء تارة، قال ابن القيم -رحمه الله- “إنما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وإيذائه له في بعض الأحيان، أمر لازم لا بد منه” ،ولو قال قائل: لماذا تكون الغلبة للكفار أحياناً؟ لماذا يقهر الكفار المؤمنين؟ لماذا يتغلب الكفار على المؤمنين أحياناً؟ يقول ابن القيم -رحمه الله-: “هذه من طبيعة الدنيا” كما أن الدنيا يقول فيها حر وفيها قر، فيها أذى من جهة الجو، كذلك يكون فيها أذى من هذه الجهة، قال: “إنما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، أذاه له في بعض الأحيان أمر لازم لا بد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار”
أيها المسلمون
فعلى المسلم أن يكون واعيا ومدركا لهذه السنن ، وأن يفقَهها ،وينتفِع بها في حياتِه ومعاشِه، ويعرف طُرقَ ووسائِلَ العِزَّة والحياةِ الكريمة، كما أن هذه السُّنن الربَّانيَّةُ تُؤكِّدُ أن هذه الحياةَ ليست عبَثًا ولا فوضَى ولا همَلًا، بل هي حياةٌ قائمةٌ على نوامِيس وسُنن وقوانِين؛ فمَن يعمَل خيرًا يُجزَ به، ومَن يعمَل سُوءًا يُجزَ به، والله لا يُضيعُ أجرَ المُحسِنين.
الدعاء