خطبة عن (سن الأربعين) مختصرة
سبتمبر 30, 2024خطبة عن (السَّعَادَةُ والنجاةُ فِي الِاتِّبَاع)
سبتمبر 30, 2024الخطبة الأولى (السُّجُودُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ الرعد:15، وقال تعالى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ١٠٧ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ١٠٨ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ الإسراء (107:109)، وروى مسلم في صحيحه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ».
إخوة الإسلام
في الشريعة الإسلامية، وهي أكمل الشرائع وأتمها: لا يكون السجود إلا لله وحده، فلا يجوز السجود لغير الله، لا تحية ولا عبادة، لأن السجود معناه: التذلل والخضوع لله وحده، وهو في الصلاة يكون بوضع الجبهة على الأرض، بقصد التذليل والخشوع، والسجود لله من صفات المؤمنين، الذين يبتغون رضا الله عنهم، والفوز بالجنة؛ قال تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا» (الفتح:29). والسجود لله جلَّ جلاله قُربٌ منه، وقُربة إليه، قال تعالى: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (19) العلق.
وقد ورد السجود لله تعالى في مواضع شتى في آيات القرآن الكريم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ (١٨) الحج، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (٧٧) الحج، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (١٥) السجدة، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ (٢٠٦) الأعراف، وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ (٥٨) مريم، وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ٣٧ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ (٣٧،٣٨) فصلت، كما جاء الأمر بالسجود في السنة المطهرة: ففي صحيح مسلم: قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ». وفي الصحيحين: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ)، وفي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ)، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء في السجود، ومما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجوده، ما رواه مسلم في صحيحه: (اللَّهُمَّ لكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ”»، وفي صحيح البخاري: (عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ :«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي».
ويتفرّع السجود المشروع في الإسلام إلى أربعة أنواعٍ، وهي: السجود في الصلاة، وسجود الشُكر، وسجود التلاوة، وسجود السهو، أما سجود الصلاة: فهو فرضٌ وركنٌ من أركانها، ويؤدّى مرّتين في كلّ ركعةٍ، تعالى تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الحج:77، وفي الحديث المتقدم قال صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أنْ أسْجُدَ علَى سَبْعَةِ أعْظُمٍ). أما سجود السهو في الصلاة: فهو السجود الذي يؤدّى قبل أو بعد السلام من الصلاة، إمّا بسبب الزيادة في الصلاة؛ أو بسبب النقص في الصلاة، أو بسبب الشكّ في الصلاة؛ وذلك على تفصيل في المذاهب، وأما سجود الشكر: فهو السجود الذي يؤدّى بسبب حدوث نعمةٍ وخيرٍ وبرٍّ، أو اندفاع نقمةٍ وضررٍ ومصيبةٍ، ويؤدّى بالسجود مرةً واحدةً، وأما سجود التلاوة: فهو السجود الذي يؤدّى بسبب سماع أو تلاوة آيةٍ من آيات السجود في القرآن الكريم، ويؤدّى سجدةً واحدةً، سواءً في الصلاة أم خارجها،
أيها المسلمون
ولما كان السجود لله تعالى بهذه المنزلة الرفيعة، والمكانة العالية، كان له من الفضائل ما ليس لغيره من العبادات، فمن فضائل السجود لله تعالى: أن العبد المؤمن أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد: ففي صحيح مسلم: قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»، ومن فضائل السجود: أن السجود لله تعالى سبب في تكفير الخطيئات، وكتب الحسنات ورفع الدرجات: ففي مسند أحمد: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ سَجَدَ لِلَّهِ سَجْدَةً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَحَطَّ بِهَا عَنْهُ خَطِيئَةً وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً». وفي صحيح مسلم: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ فَإِنَّكَ لاَ تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً»، وفي سنن ابن ماجه: (رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَمَحَا عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً فَاسْتَكْثِرُوا مِنَ السُّجُودِ». ومن فضائل السجود: أن السجود علامة تتميز بها الأمة المحمدية دون غيرها يوم القيامة: ففي مسند أحمد: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ أُمَّتِي مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَأَنَا أَعْرِفُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قَالُوا وَكَيْفَ تَعْرِفُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَثْرَةِ الْخَلاَئِقِ قَالَ «أَرَأَيْتَ لَوْ دَخَلْتَ صَبْرَةً فِيهَا خَيْلٌ دُهْمٌ بُهْمٌ وَفِيهَا فَرَسٌ أَغَرُّ مُحَجَّلٌ أَمَا كُنْتَ تَعْرِفُهُ مِنْهَا». قَالَ بَلَى. قَالَ «فَإِنَّ أُمَّتِي يَوْمَئِذٍ غُرٌّ مِنَ السُّجُودِ مُحَجَّلُونَ مِنَ الْوُضُوءِ»، ومن فضائل السجود: أن السجود سبيل لدخول الجنة: فقد أخرج الإمام مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِى يَقُولُ يَا وَيْلَهُ – وَفِى رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ يَا وَيْلِي – أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِىَ النَّارُ». ومن فضائل السجود: أن كثرة السجود تجعل الإنسان في درجة عالية في الجنة، ربما لا يصل إليها الكثير، ومرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة: ففي صحيح مسلم: (قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي «سَلْ». فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ «أَوَغَيْرَ ذَلِكَ». قُلْتُ هُوَ ذَاكَ. قَالَ «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». ومن فضل السجود: أنَّ السجود موضعُ استجابةٍ للدعاء؛ ففي صحيح مسلم: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ». ومن فضائل السجود: أن السجود وقاية من النار: ومما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق:19] أي اقترب من الله وتوكل عليه بطاعته والسجود إليه، ومن فضل السجود: أن فيه تذكر البداية والنهاية :فالإنسان في سجوده يمرّغ جبهته بالتراب، فيتذكر أن أصل خلقته من التراب، وأنه عاد إلى هذا التراب، وأن الله سبحانه وتعالى يبعثه يوم القيامة للنشر والحساب، ومن فضائل السجود: أن فيه مشاركة كل الاعضاء: إذ أن الإنسان في سجوده يكون على هذه الأرض بيديه وقدميه وركبتيه وجبهته وأنفه، فهذا كله دليل على أنه كله لله سبحانه وتعالى، وأن كل حواسه ينبغي أن تكون لله عز وجل وفق أمر الله، ومن فضل السجود: أن فيه مراغمة للشيطان: لأن الشيطان أُمر بالسجود فأبى، وكان ذلك سبب حلول لعنة الله عليه، ثم يكون له العقاب في الآخرة، وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِى يَقُولُ يَا وَيْلَهُ – وَفِى رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ يَا وَيْلِي – أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِىَ النَّارُ». ومن فضل السجود: أن سجود الدنيا سبب للسجود يوم القيامة: وهذا هو ما ذكره أهل التفسير في معنى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم:42]، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ – رضي الله عنه – قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِئَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (السُّجُودُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (98)، (99) الحجر، (فكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) فهذا أمر بالسجود، فالسجود هو انطراح للجبار، وتذلل للقهار ،وتمريغ للأنف، وتعفير للوجه، وانطلاق من أسْر الدنيا، وهروب من قيود الطاغوت، وتجرد من أوسمة العظمة، وتخلّ عن رُتَب الفخامة، وألقاب الزعامة.
(كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ): فالسجود غاية التواضع والعبودية لله تعالى، ففيه تمكين أعز أعضاء الإنسان وأعلاها وهو وجهه من التراب الذي يُداس ويمتهن. (كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ): فالسجود أقصى درجات العبودية، وأجل مظاهر التذلل، وأصدق دلائل الإذعان، وأعذب مناظر الخشوع ،وأفضل أثواب الافتقار. (كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ): فالسجود روضة خاصة، إذا دخلها القلب لا يخرج منها أبدًا، ففيها من اللذة والانشراح ما لا يُوصَف، ولا يحيط به قلم،
(كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ): ففي السجود أقرب ما يكون العبد من ربه، فتُسكَب فيه العبرات، وتُزاح الآهات، وتُطرح الحاجات، وتُجاب الدعوات، (كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ): فأنت في السجود تشارك كل المخلوقات، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج:18]، فالعبد حينما يسجد لله عز وجل يكون جزء من هذا الكون المسبح بحمد الله الساجد له سبحانه وتعالى، (كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ): فالسجدة الواحدة أحب من الدنيا وما فيها، ففي صحيح البخاري: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
أيها الموحد
فاسجد لله باكيًا، فيا لذة البكاء في السجود، واسجد لله سائلاً، وداعيًا، ومسبِّحًا، ومهللاً، ومتضرِّعًا، وخاضعًا، فأنت في جنَّة من جنان الدنيا، قد حرم منها غيرك، فلو عرَفتَ قدر هذه النِّعمة، لما تعجلت الرَّفع منها، ولأطلت السجود، ولذرفت الدموع، ولسكبت العبراتِ، نادما بين يدَي خالقك على ما فات من أيام دهرك. وفي السجودِ تتمازجُ للروحِ الأفراح.. وتتلاشى كل الأتراح. فاسجد للشكر، واسجد للتوبة، واسجد للتلاوة، واسجد للسهو في صلاة، ولتكن حياتك سجودًا، وعبوديَّة وطاعة وامتثالاً ورغبة ورهبة. واسجد سجودًا يليق بمن تَسجُد له.
الدعاء