خطبة عن ( من الدعوات في الدار الآخرة )
نوفمبر 2, 2024خطبة عن (يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)
نوفمبر 4, 2024الخطبة الأولى (الطَّمَعُ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
في كتاب الله تعالى، قال سحرة فرعون: (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) الشعراء (51)، وقال نبي الله إبراهيم: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (82) الشعراء
إخوة الإسلام
وصف الله عز وجل الأنبياء والرسل -عليهم السلام ـ وهم أكمل الناس عقيدة وإيمانًا، فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90)، والرَغَب هو: الطمع في رحمة الله وجنته وفضله، والرهَب هو، الخوف مِنْ عقابه وناره، ومَدَحَ اللَّه تعالى عباده الصالحين، أَهْلَ الْخَوْف والرَّجاء، بقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} (الزُّمَرِ:9)، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (السجدة:16). وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»، فالرجاء في الله تعالى، والطمع في واسع فضله، وعظيم رحمته، التي وسعت كل شيء، لهو أمرٌ عظيمٌ، فلا ينجو عبد في الدنيا والآخرة إلا به،
ومما ورد في سعةِ رحمةِ الله تعالى، وشمول، عفوه، ومغفرته، قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]. وقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156]. وفي صحيح البخاري: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهْوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»، وفي الصحيحين: (أن رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ »، وفي مسند أحمد: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَمِنْهَا رَحْمَةٌ يَتَرَاحَمُ بِهَا الْخَلْقُ فَبِهَا تَعْطِفُ الْوُحُوشُ عَلَى أَوْلاَدِهَا وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». فهذه النصوص تجعلُ العبدَ طامعًا في رحمة الله، وراجيًا مغفرته، كما تجعل المؤمنَ باللهِ، المصدقَ لرسولِه صلى الله عليه وسلم مجتنبًا اليأسَ والقنوط من هذه الرحمة، قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]؛ وفي سنن الترمذي وغيره: (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ «كَيْفَ تَجِدُكَ». قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ». وفيه أيضا: (رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «قَالَ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»، وحين حفَّزَ النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين يومَ بدر قال لهم كما في صحيح مسلم: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ». قَالَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ قَالَ «نَعَمْ». قَالَ بَخٍ بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ». قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا». فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ – قَالَ – فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ. ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ). فرحمة الله واسعة، ولا يقنط المؤمن ولا يقطع رجاءه منها، بل يحرص على حصولها، بالدعاء والعمل الصالح، قال تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156].
أيها المسلمون
وقد ذكر القرآن الكريم الطمع في رحمة الله في مواطن عدة، فجاء الطمع مقترنًا بالتصدي لطواغيت الأرض، فأخبر الله تعالى عن سحرة فرعون، حين عرفوا الحق فآمنوا، وسجدوا لرب العالمين، ولم يلبثوا أن صدعوا بالحق في وجه فرعون، وفضحوه على الملأ، مع تيقنهم من إجرامه وبطشه، حتى أنهم لم يطلبوا النجاة من القتل، بل دعوا ربهم أن يتوفاهم على الإسلام، فقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]، ولكنهم مع يقينهم لتعرضهم للقتل تقطيعًا وتمثيلًا بهم، قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51]،
وقد ذكر الله تعالى بعد قصتهم طمع خليله إبراهيم (عليه السلام) في رحمته، فإبراهيم (عليه السلام) صدع بالحق، بتبرئته من عبادة الأصنام، والآلهة الباطلة، فقال لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ*أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ *فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75-77]، ثم أثني على ربه بذكر نِعمه، وكان أول سؤاله لربه: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]، وقضى الله تعالى بحكمته أن تكون النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، ليكون حاضرًا في الذهن، أن موضع الطمع في رحمته سبحانه واحد، سواء نجى الطامع في الدنيا، أو هلك، والذي يطمع في رحمة الله تعالى وفضله، لا بد أن يقوم بما فرضه الله تعالى عليه، من أداء حق النعم؛ شكرا بالقلب واللسان، وسائر الأعضاء، أما من لا يفعل ذلك، فواجبه أن يخاف من سلب النعمة، قال تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج:38].
ومن صور الطمع في القرآن: طمع المؤمنين في إيمان غيرهم؛ رغبة في أن يعم الخير، وينجو الناس من عذاب الله تعالى، وينالوا السعادة في الدنيا، والفلاح في الآخرة، قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75]
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الطَّمَعُ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن صور الطمع في القرآن: الطمع في مرافقة الصالحين في الآخرة، فقال الذين آمنوا من أهل الكتاب: {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:84]، فعندما علموا سعة رحمة الله تعالى، طمعوا فيها، وحبهم للمؤمنين الصالحين، وصحبتهم لهم والتخلق بأخلاقهم ،فتح أمام نفوسهم أبواب الرجاء، لكي يدخلوا معهم في دار الكرامة، التي أعدها الله لعباده الصالحين، فكان جزاء الكريم – سبحانه- على من تعلق به، ورجى منه العفو عن التقصير، فقال تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:85].
ومن صور الطمع في القرآن: طمع أهل الأعراف، فلا يزال الطمع في رحمة الله، وعظيم عفوه بأهل الأعراف، حتى ينزلهم منازل الأبرار، فقال تعالى: (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (الأعراف:46) ،فيُسلم أصحاب الأعراف على أهل الجنة، قبل أن يلحقوا بهم في الدخول إلى الجنة، مع طمعهم في إدراك هذه الصحبة الصالحة، لما رأوا مما يظهر على أهل الجنة من علامات الرضا الإلهي، والسعادة البادية على الوجوه والأجساد،
وما من عبدٍ مسلمٍ إلا ويخاف من مقامه بين يدي الله، وما من مؤمن إلا سوف يناجيه ربه يوم القيامة مناجاة المحب لحبيبه، وهنا تنزل من الرحيم أعظم الرحمات على عبده الذي أسرف على نفسه؛ ففي الصحيحين: (أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ فِي النَّجْوَى قَالَ «يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ نَعَمْ. وَيَقُولُ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ نَعَمْ. فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ»
الدعاء