خطبة عن (اللَّه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)
مايو 14, 2025الخطبة الأولى ( وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) (11) الاسراء
إخوة الإسلام
لقد خلق الله تعالى الانسان ،وأودع فيه بعض الخصائص والصفات التي تلازمه ولا تنفك عنه ، ومن هذه الخصائص : أن الإنسان خُلق عجولاً، وهناك الكثير من الآيات الكريمة في كتاب الله القرآن الكريم تصف الإنسان بالعجل، يقول الله عز وجل: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) (11) الاسراء ، وقال الله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) (37) الانبياء ، والعجلة : هي طلب الشيء في أوانه، فالإنسان يريد أن يتحقق ما يصبو إليه في الوقت الذي يريده ،وبالشكل الذي يرضيه، فإذا لم يتحقق له ذلك ،فإنه يكون متذمراً ساخطاً ،وهذه الصفةُ ( صفة التعجُّل أو العجَلَة، وعدم الصبر والتأنِّي والتُّؤَدَة)، الإنسانُ مجبولٌ عليها ،ومجبول على استِعجالِ ما يراه خيرًا له أو مصلحةً، واستِعجالِ تركِ ما يراه شرًّا له أو مَفسَدة، حتى إنَّه يدعو بالشرِّ على أبنائه أو مَن هو قريبٌ منه إذا بدا منهم ما لا يُحِبُّه أو ما لا يُعجِبه؛ كما قيل في تفسير قوله – تعالى -: ﴿ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ﴾، وكذا في قوله – تعالى -: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ [يونس: 11]
والله سبحانه وتعالى – يحبُّ الأناة، وهي التثبُّت وترك العجَلَة؛ كما جاء في “صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ « إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ ». وفي سنن البيهقي : (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ » ،فالتأنِّي من الله؛ لأنَّه مُندَرِج في الحكمة التي يُؤتِيها الله – تعالى – بعض عباده، والحكمة خير كثير؛ كما قال – عزَّ وجلَّ -: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]. والتعجُّل في الأمور يكون من وَساوِس الشيطان، قال المناوي في “التيسير”: أي: هو الحامِل عليها بوسوسته؛ لأنَّ العجَلَة تمنع من التثبُّت والنظَر في العَواقِب، وذلك وقَع في المَعاطِب، وذلك من كَيْدِ الشيطان ووَسوَستِه؛ وقد جعل – صلى الله عليه وسلم – التُّؤَدَة جزءًا من النبوَّة ففي سنن الترمذي وحسَّنَه الألباني: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ الْمُزَنِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالتُّؤَدَةُ وَالاِقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ » ،فالتُّؤَدَة والتأنِّي من شَمائِل الأنبِياء والمُرسَلِين – عليهم الصلاة والسلام – وفي هذا حَثٌّ على الاقتِداء بهم والتخلُّق بهذه الصفة الحميدة.
ومدْح التُّؤَدة والتأنِّي خاصٌّ بأمور الدنيا فحسب، أمَّا أمور الآخِرة والتقرُّب إلى الله – تعالى – فالواجب فيها الإسراعُ والتعجُّل؛ يقول – صلى الله عليه وسلم -: ((التُّؤَدة في كلِّ شيءٍ خيرٌ، إلا في عمل الآخرة))؛ (أخرجه أبو داود وصحَّحه الألباني). وقد حثَّنا ربُّنا – تبارك وتعالى – على المسارعة والمسابقة إلى الخير في عِدَّة آيات؛ فقال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 148]، وقال الله تعالى : ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48]، وقال الله تعالى : ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
أيها المسلمون
وصُوَر التعجُّل في حياتنا كثيرةٌ جدًّا؛ إذ ما من موقف أو سلوك إلا ودخول العجَلَة وارِدٌ عليه، لكن صُوَر العجَلَة تتلخَّص في جانبَيْن اثنَيْن: الأول : جانب التفكير: فكثيرًا ما نتعجَّل في تفكيرنا في بعض القضايا الخاصَّة بنا، أو حتى القضايا العامَّة، فنخلُص إلى قرارات أو نظريَّات أو قناعات نهائيَّة، لم تأخذ حقَّها الكامِل من الوقت، فيقع من جرَّاء ذلك القصور والخطأ. ومعنى أن يتأنى الإنسان في التفكير قبل أخْذ القرار: أن يُكثِر من مُراجَعة نفسه، ويَستَشِير مَن حولَه من أهل الخبرة الثقات. ومن أمثلة هذا: التعجُّل في قرار الخطبة، ومقاييس قبول الطرفَيْن لبعضهما، والتعجُّل في قرار أو القناعة بالطلاق والانفِصال الزوجي من أحد الطرفَيْن.
الثاني: جانب العمل: والجانب العملي أو السلوكي عادَةً ما ينبَنِي على الجانب التفكيري؛ لهذا كان الواجِب بعض التأنِّي في العمل، حتى بعد التفكير وأخْذ القرار المُناسِب. ووجوب التأنِّي في سلوكيَّاتنا أو أعمالنا بعد التفكير العمِيق، يَرجِع إلى أكثر من أمر، فقَراراتنا ليست مَعصُومة من الخطأ أو القصور، كما أنَّ الواقع الذي تصدُر عنه أحكامُنا قابِلٌ للتغيُّر باستِمرار. والذي يَعجَل في شؤونه كلِّها دون النظر إلى عَواقِب الأمور والاستِفادة من أهل الخبرات – حَرِيٌّ به ألا يُوفَّق في شيءٍ من حياته!
ومن تطبيقات هذه العَجَلَة العَمْياء غير المتبصِّرة أن الإنسان مثلاً يحب الربح السريع ، فيكذب ،ويغش ،ويحتال ، ويدلِّس ،من أجل أن يكون غنياً في أقصر وقتٍ ممكن ، وحينما يكتشف الناس كذبه ،ويكتشف الناس غِشَّه ،ويكتشف الناس احتياله ،يَنْفَضِّون عنه ،إذاً هذه العجلة التي لم ترافقها طاعةٌ لله عز وجل كانت وبالاً على صاحبها ، وما من صاحبٍ حرفةٍ يستعجل الربح السريع إلا على حساب إخلاصه ، وعلى حساب إتقانه ، وعلى حساب نُصْحِهِ للناس ، فإن لم يكن ناصحاً لهم ،ولم يكن متقناً في عمله ،ولم يكن صادقاً ،ولم يكن نافعاً ، عادت هذه العَجَلَة ؛ أيْ طلب الربح السريع في الوقت القصير وبالاً عليه ، فأهلكته في الدنيا قبل الآخرة .
فيا صاحب الحرفة ، دقق في إتقان صنعتك ،ولا تدقق في الكسب الماديّ ، عندئذٍ ترتفع بين الناس ويأتيك المال ،أما إذا جعلت المال نُصْبَ عينيك ، وأردت أن تربح سريعاً على حساب إتقان عملك ،وعلى حساب إخلاصك في عملك ، وعلى حساب خِدْمَةِ الناس ،فعندئذٍ يقع الإنسان في شر عمله . وأحياناً يهمل الإنسان بناء نفسه ، يريد مسكناً مريحاً ، دخلاً كبيراً ، عملاً رابحاً ، فيسلك طرائق ملتوية مخالفة للشرع من أجل أن يقطف ثمار الدنيا قبل أوانها ، قبل الوقت المُناسب ، عندئذٍ يهلك نفسه ،أما الذي يبني نفسه بناءً صحيحاً ،فيطلب الشيء في أوانه ، هو الذي يقْطِف الثمار . وأحياناً يطلب الإنسان المُتْعَةَ قبل الوقت المناسب التي أباحها الله عن طريق الزواج ، يطلب هذه المُتْعَة قبل أوانها ، قبل الطريق المشروع ، فيقع في شَرِّ عمله ، يقع في حجابٍ بينه وبين الله ، يصبح مقطوعاً عن الله عز وجل ، ينطفئ نوره ، ويصبح أعمى القلب ، وربما جاءته الأمراض من كل جانبٍ وهو لا يدري ، لماذا ؟ لأنه تَعَجَّلَ قضاء هذه الشهوة قبل الوقت المُناسب ، وقبل الظروف المناسبة .هذه العَجَلَة هي التي يُمكن أن تكون أساس الشرور ،وأساس المعاصي ، وأساس الطُغْيان ، وأساس الانحراف ،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وإذا كانت العجلة وعدم التأني سلوك سلبي ،فلابد من علاجها والتخلص منها ، ومن علاج العجلة : استِشعارُ خطورة هذا الداء ابتِداءً، بحيث تتحرَّك في الإنسان عزائِمُه نحو تغيير هذا السلوك. ومن وسائل علاج العجلة : التمرُّن والتعوُّد لترك العجَلَة، والتحلِّي بخُلُق التُّؤَدَة؛ ومعنى ذلك: أن يُراجِع الإنسان نفسَه إذا دعَتْه إلى التعجُّل في أمرٍ ما، ومع الوقت يَعتاد الإنسان التأنِّي في أموره كلِّها، ويَستَبدِل التُّؤَدة بخلق العجلة.
ومن وسائل علاج العجلة : تقوية الإيمان بالله – تعالى – وهو أثر الإيمان بقدَر الله – تعالى – في حياتنا، فكلُّ شيءٍ في هذا الكون مُقدَّرٌ مَقضِيٌّ منه، فعلامَ التعجُّل وما قدَّره الله – تعالى – علينا واقِعٌ في أوانه ووقته؟ والإيمان بالقدر على وجهه الصحيح يجعَل الإنسانَ أكثرَ صبرًا في مَواقِفِه وفي أفعاله كلِّها؛ لأنه يَعلَم أنَّ ما قدَّره الله – تعالى – عليه سيكون.
ومن وسائل علاج العجلة : النظر في عَواقِب التعجُّل في تجارِبنا الخاصَّة وفي تجارِب مَن حولَنا، فكثيرًا ما نندَم على قرارٍ أو موقفٍ في حياتنا، ونتمنَّى لو أنَّ الزمان رجع بنا، وأنَّنا استقبلنا من أمرنا ما استَدبَرنا، وكذلك كثيرًا ما يحدث هذا مع مَن حولَنا، والواجب الاستِفادة من هذا كلِّه.
وهناك تعجُّلاً آخَر محرَّمًا لدى الإنسان، وهو تعجُّل الملذَّات والشهوات المحرَّمة، والمؤمن سيَسعَد بكلِّ الملذَّات في الآخِرة، فإذا ما أقدم على شهوة محرَّمة انتَقَص بذلك ممَّا له عند الله – تعالى – يومَ القيامة، وربَّما مُنِعَه تمامًا. وعلاج هذا – بالإضافة إلى ما فات – يكون بتَعمِيق الإيمان باليوم الآخِر، وما أعدَّ الله فيه لأهل طاعته، وما توعَّد فيه أهل معصيته، كما يكون بالنظر الصحيح لشهوات الدنيا وأنها في الحقيقة شهوات ناقصة، وما تُخلِّفه من آلامٍ ومَتاعِبَ كثيرًا.
الدعاء