خطبة عن خطورة الكذب على رسول الله وحديث (مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا)
يوليو 21, 2018خطبة عن قوله تعالى (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ)
يوليو 21, 2018الخطبة الأولى ( العقوبات في الإسلام : أهدافها ،أنواعها ،والشبهات المثارة حولها)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (41) :الروم ،وقال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (179) البقرة وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (4) ،(5) النور، وقال تعالى :” الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ” النور: 2 ، وقال تعالى : ” وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ” المائدة 38 :39. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « حَدٌّ يُعْمَلُ فِي الأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا ثَلاَثِينَ صَبَاحاً » رواه احمد. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ » رواه ابن ماجة.
إخوة الاسلام
إن من حكمة الله في خلقه ، أن شرع لهم من الدين ما تستقيم به أحوال العباد والبلاد ، فلا يستبد ظالم ، ولا يظلم ضعيف ، فانزل الله كتابا محكما ، يحمل بين جوانبه نظاما محكما ، ومن ذلك نظام العقوبات ،فما هي العقوبة ؟ وما الحكمة والهدف منها في نظر الاسلام ؟ ،وما هي أنواعها ومميزاتها ؟ وماذا عن الشبه التي أثيرت حول العقوبات في الاسلام ؟ : أولا : العقوبة في الإسلام : هي الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع، وهي أيضا : جزاء فعل محظور، أو ترك مأمور ، وتعتبر العقوبة أذى لمن وقعت عليه، ولكنها في الوقت نفسه تعد مصلحة في حق غيره ، ثانيا : أما عن الهدف أو الحكمة من العقوبات في نظر الإسلام : فقد وضع الإسلام نظامَيْن للعقوبات، نظامًا معجَّلًا يطبَّق في الدنيا ونظامًا مؤجَّلًا يطبَّق في الآخرة. النظام الأخروي يخصّ العقوبةَ المتعلقة بضلال الاعتقاد (الكفر والنفاق)، والتي لا سلطانَ فيها لأحد على أحد في الدنيا؛ والسؤال : لماذا حدّد الخالقُ تبارك وتعالى حدودًا وعقوبات محدَّدة يعاقَب بها من يرتكب أنواعًا محددة من الجرائم؟ والجواب : إن الهدف الظاهر من تشريع الحدود في الجرائم الكبرى والقصاص في الجنايات والدماء هو حمايةُ أمن الجماعة وصيانتُها من الأخطار التي تهدِّد وجودها واستقرارها. فهي لمصلحة دنيوية جماعية: فالربا يدمِّر اقتصاد الأمة، والزنا يدمِّر أخلاقها، والسرقة والقتل والإفساد في الأرض وتعاطي المسكرات والمخدرات كلها جرائم تعرّض الأمنَ الاجتماعي للخطر الشديد، فإذا تهاونت الجماعة في الأخذ على أيادي المجرمين تعرّض كيان الجماعة كله للخطر، وأوشكت أن تنهار انهيارًا عامًّا قد لا تقوم لها قائمةٌ بعدَه. فأهم الأهداف والحكم التي من أجلها قرر الإسلام العقوبات على مرتكبي الجرائم فكانت في العموم أهدافا تتلخص فيما يلي : فالهدف الأول : هو حفظ الضروريات الخمس وهو الهدف الرئيس حيث جاء الإسلام ليحفظ للإنسان دينه ونفسه وعرضه وعقله وماله, فرتب العقوبات لتسلم هذه الأمور الضرورية لحياة الناس . والهدف الثاني : وهو الردع والزجر عن الجريمة سواء كان ردعا عاما ليردع جميع الناس عن ارتكاب الجرائم أو ردعا خاصا يردع المجرم عن ارتكاب الجريمة مرة أخرى . والهدف الثالث : هو أن في العقوبات جبرا للخلل الناجم عن ارتكاب الجريمة سواء كان جبرا لجانب المجني عليه بتعويضه عن حقه الذي انتهكه الجاني, أو جبرا لجانب الجاني نفسه حيث تجبر ما انثلم من دين الجاني وتكفر ر ذنوبه التي اقترفها . والهدف الرابع : هو تطهير المجتمع من الرذائل فتطهر المجتمع منهم وتحمي الفضائل من شرورهم بل وتغرس الفضائل في نفوسهم . والهدف الخامس : هو الرحمة بالأمة وبالمجرمين حيث أن الله تبارك وتعالى قررها لتكفل حق الأمة في الحياة الآمنة ثم هي كذلك رحمة بالمجرمين إذ تنتشلهم من حماة الجريمة ودرنها . والهدف السادس : هو مجازاة الجاني بالمثل وهذا هو العدل الذي تكون فيه الموازنة بين الحقوق والواجبات . والهدف السابع : هو إصلاح الجاني, فإصلاح الجاني هدف مهم من أهداف العقوبات الشرعية سواء كان ذلك أثناء تطبيق العقوبة أو بعدها, فيجب أن يكون هدف من يوقع العقوبة هو إصلاح الجاني وليس الهدف هو تقييد الناس لتوقيع العقوبات عليهم . فجملة القول أن الإسلام جاء لحماية هذه الأشياء التي تسمى بالضروريات الخمس, لأنها ضرورية للناس في حياتهم, ولا يمكن بقاء الإنسان ولا توافر معاني الحياة الإنسانية الكريمة إلا إذا توفرت هذه الأشياء الخمسة, إذ أن فقدان واحد منها يخل بحياة الإنسان ويترتب عليه اضطراب أموره ،ومن أصدق من الله حكما ، فالله الرؤوف الرحيم بعباده ، هو جل وعلا أعلم بما يصلح أحوالهم ، وأدرى بما تستقيم به حياتهم ، وبما ترتدع به نفوسهم .
وللعقوبات أنواع متعددة : فليس ثمة أمة من الأمم إلا وفي قوانينها عقوبات وروادع تردع بها المجرمين والظلمة، وهذا شيء مجمع عليه بين العقلاء في سائر الأمم والأزمنة، والاختلاف إنما يقع في نوع هذه العقوبة ودرجتها ، وقد جاءت الحدود الشرعية في الاسلام لتمثل زاجرا مثاليا في درء وقوع أي جناية على أي من هذه الضرورات فكانت بناء على ذلك ستة ، وهي : 1- حد الردة الذي شرع لحفظ الدين والأفكار. 2- وحد السرقة الذي شرع لحفظ الأموال. 3- وحد السكر الذي شرع لحفظ العقول. 4- وحد الحرابة الذي شرع لحفظ الأمن. 5- وحد الزنا الذي شرع لحفظ الأعراض. 6- وحد القذف الذي شرع لحفظ كرامة الإنسان الاجتماعية.
أيها المسلمون
ثم نأتي إلى الشبه التي أثيرت حول نظام العقوبات في الاسلام ، فمنها : الشبهة الأولى : ( أن العقوبات الشرعية قديمة وجامدة :قد عفّى عليها الزمان ، وتجاوزتها الحضارة ، ولم تعد ملائمة لهذا العصر ،عصر التقدم والمدنية ، والتحضر التقني والصناعي ،فالأخذ بها تقهقر بالإنسانية الراقية ، ورجعة بها إلى عهود الظلام الدامس ، والقرون الوسطى) .. ولدحض هذه الشبهة ، نقول لهم : أولا : (أن العاقل المنصف لا يزن الأحكام والتشريعات بالزمان الذي صدرت فيه أو نُقلت منه ، ولكن الميزان الذي تُقَوّم به هو مدى صلاحيتها ، وتحقيقها للغاية المبتغاة منها ، وعليه ؛ فليس كل قديم مردوداً ، ولا كل جديد مقبولاً ، ولا كل ما نشأ في البادية فاسداً ، ولا كل ما نشأ في الحضر صالحاً . ثانيا : أن مصدر هذا التشريع ليس بقعة من بقاع الأرض ، ولا اجتهاداً بشرياً قاصراً ، وإنما هو شريعة الله التي أنزلها هدى ورحمة للعالمين ،وأن تحقيق هذه العقوبات الشرعية للأمن ، وحمايتها لمصالح الناس ، ومكافحتها للجرائم ، على مدى القرون الماضية التي طبقت فيها ، مع اختلاف البيئات والثقافات والأجناس ؛ دليل على أنها تشريع من حكيم خبير ، وأنه لا يمكن أن يقوم غيرها مقامها ، ولا أن يحقق الثمرة التي تتحقق من خلالها) ، أما الشبهة الثانية : فقولهم : (أن العقوبات الشرعية تتسم بالقسوة والهمجية التي تبعث على الاشمئزاز ،ولا تتناسب وروح هذا العصر ،وإنسانيته ،وحمايته لحقوق الإنسان وكرامته) .. وللرد عليها ودحض هذه الشبهة نقول لهم : أولاً : أن العقوبة ليست مكافأة على عمل مبرور ، وإنما هي جزاء مقرر على ارتكاب جريمة ، يقصد به الإيلام والردع ،وإذا لم تكن العقوبة مؤلمة ؛ فليس لتطبيقها أي أثر في الزجر والردع ، ولا شك أن الإنسان يتمنى ألا توجد في المجتمع جريمة أبداً ، حتى لا توجد عقوبات أصلاً ؛ ولكن هذا حلم لا يمكن أن يتحقق ، ورغبة خيالية تصطدم بالواقع المعاش . فهناك نفوس جاهلة حمقاء لا تلتزم بما لها وما عليها ، ونفوس شريرة ظالمة قد تأصّل فيها الإجرام والإفساد ، وسعت للإضرار بالآخرين وبخسهم حقوقهم . والحياة لا يمكن أن تستقيم وتنتظم إلا بالالتزام ، واحترام حقوق الآخرين ، وعدم المضارة بهم . فمن خرج عن هذا الالتزام ، وسعى للإضرار بنفسه وبغيره ، كان ردعه واجباً عقلاً وشرعاً ، ولا ردع إلا بقسوة وإيلام . واسم العقوبة مشتق من العقاب ، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف . ثانياً : أن هؤلاء الطاعنين في هذه العقوبات قد اعتبروا مصلحة المجرم ، ونسوا مصلحة المجتمع ، وأشفقوا على الجاني ، وأهملوا الضحية ، واستكثروا العقوبة ، وغفلوا عن قسوة الجريمة ،ولو أنهم قرنوا العقوبة بالجريمة ، ولاحظوا الاثنتين معاً ، لخرجوا موقنين بالعدالة في العقوبات الشرعية ، ومساواتها لجرائمها . ثالثاً : أن الله تعالى أراد للناس أن يعيشوا آمنين مطمئنين ، ولن يتيسر لهم ذلك إلا ببتر الفاسدين وقطع دابرهم . وهذه سنة الله في خلقه : رابعاً : أن الإسلام قبل أن يستأصل هؤلاء المجرمين ، ويقرر عليهم العقوبات الرادعة ؛ قد أعذر إليهم حيث قدم لهم من وسائل التربية والوقاية ما كان يكفي لإبعادهم عن الجريمة التي اقترفوها ؛ لو كانت لهم قلوب تعقل ، أو نفوس ترحم . خامساً : أن الغاية الكبرى من هذه العقوبات هو التخويف والردع الذي يمنع وقوعها ابتداء ، ولا يُحوِج إلى اللجوء إليها إلا في أضيق الحدود ،
ومن الشبهة المثارة حول العقوبات في الاسلام : (يقولون : إن الزنا برضا الطرفين حرية شخصية ، وإقامة الحد في هذه الحال مصادرة لهذ الحرية التي يجب أن تصان ، كما أن حد الزنا فيه إهدار لآدمية المجرم ، وإيذاء له لم يعد مقبولاً في العصر الحديث) ، وللرد ودحض هذه الشبهة ، نقول لهم :(أما الاحتجاج بالحرية الشخصية إذا وقع الزنا برضا الطرفين ، فإنه قول متهافت مردود ؛ لأن الإنسان ليس حراً في فعل ما يضره ، أو يضر غيره . فله مطلق الحرية ، إلا فيما يعود عليه أو على غيره بالضرر ،وقد ثبت بالشرع والعقل والحس أن الزنا شر سبيل ، وأن له أضراراً كثيرة على الزانيَيْن ، وعلى أسرتَيْهما، وعلى مجتمعهما ،وعليه ؛ فإن وقوع الزنا بالتراضي لا يبيح الزنا ، ولا يزيل أضراره وآثاره السيئة . فوجب معاقبة فاعله والأخذ على يده. وأما القول بقسوة هذه العقوبة ، وإهدارها لآدمية الزاني بجلده أو رجمه ؛ فالجواب عنه : أن الزاني هو الذي أهان نفسه وعرضها للإذلال والإهدار ، فإنه لو لم يفعل هذه الفاحشة المنكرة لبقي محترماً موفور الكرامة ، حرمته مصونة ، ونفسه معصومة ) ، (لقد أعلنت الشريعة أن عقوبة الزاني المحصن هي الرجم . وهو إعلان مخيف ، وتلويح بسلاح رهيب ولا شك . ولكنها شرطت لإيقاع هذه العقوبة أحد الشرطين : الاعتراف القاطع الصريح ، أو شهادة أربعة شهود برؤية الفعل على حقيقته . وحسبك أن تعلم أن عدد الشهود ما لم يتكاملوا أربعة ؛ يعدّون آثمين متلبسين بجريمة القذف ، وتغدو شهاداتهم سبباً لإنزال العقوبة عليهم بدلاً من أن تكون موجباً لأخذ المتهم بجريمة الزنا . ومن الشبهة المثارة حول العقوبات في الاسلام، حد الردة 🙁 قالوا : إن هذه العقوبة القاسية مصادمة لمبدأ عدم الإكراه في الدين ، والذي قرره الله في أكثر من آية في كتابه ، وللرد عليهم ودحض هذه الشبهة ، نقول :(أما قولكم : إن حد الردة مصادم لما قرره القرآن من مبدأ عدم الإكراه في الدين ،فإنه غير صحيح ؛ لأن الإكراه المنفي في الآيتين إنما هو الإكراه على الدخول في الإسلام ابتداءً ، فالإسلام يريد ممن يدخل فيه أن يدخله عن قناعة ورغبة واختيار ، وإدراك لحقائقه وميزاته ، وأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده ، وجعله مهيمناً على الأديان كلها ، ولن يقبل من أحد ديناً سواه . فإذا دخل فيه كذلك ، فليس له من بعد أن ينكص عنه ، ويشتري الضلالة بالهدى ، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؛ إذْ ماذا بعد الحق إلا الضلال ؟
ومن الشبهة المثارة حول العقوبات في الاسلام، حول حد السرقة والحرابة : (قالوا : إن العقوبة بتقطيع الأطراف فيها إضرار بالمجتمع ، وذلك بإشاعة البطالة فيه ، وتعطيل بعض الطاقات البشرية التي كانت تسهم في العمل والإنتاج ، وتكثير المشوهين والمقطعين الذين أصبحوا عالة على المجتمع بسبب عجزهم عن الكسب والإنفاق ، فيجب أن يستعاض عن هذه العقوبة بالحبس مع التربية والتوجيه) – ولدحض هذه الشبهة فنقول : هذا زعم ينقصه الإنصاف والنظر الصحيح ، بل هو مغالطة صريحة وقلب للحقائق ، ذلك أن ترك السرّاق والمحاربين دون عقوبة رادعة ؛ يجعلهم يعيثون في الأرض فساداً ، ويهددون أمن المجتمع ، ويهتكون الحرمات ، ويقطعون على الناس سبل العيش والكسب ، ويعطلون مصالحهم ، ويخيفونهم في مأمنهم ، ويفجعون النساء والأطفال في مساكنهم ، ويسرقون جهود الآخرين ، ويستبيحون أموالهم بغير حق . كما أن ذلك يدعوهم إلى البطالة والقعود عن العمل والكسب المشروع ؛ لأنهم يستطيعون تحصيل ما يريدون عن طريق السرقة وقطع الطريق . كما أن العاملين المجتهدين في تحصيل الأموال بالسبل المشروعة سينقبضون عن العمل ، وينتظمون في سلك الكسالى العاطلين ؛ ما دامت أموالهم مهددة بالاستلاب والضياع ، فتتعطل الأعمال ، وتفسد الأحوال ، ويقعد الناس عن التكسب وجمع المال . ومعنى ذلك أن السارق لا يسرق المال فقط ، وإنما يسرق معه أمن المجتمع واستقراره وطمأنينته ، فكان في التساهل مع هؤلاء السراق خراب العمران ، وشل قدرات الإنسان ، واستنفاد طاقته ووقته وجهده في حفظ ماله وحمايته . كما أن السرقة تتبعها – في الغالب – أقسى الجرائم المباشرة من القتل والجرح ، وانتهاك الأعراض ، وهتك حرمات البيوت ، وغيرها . وإن السراق يتسلحون دائماً خشية الظفر بهم فيدافعون عن أنفسهم ، أو لقتل وجرح من يقف في طريقهم ، ويحول بينهم وبين تحقيق مرادهم ، أو يخشون منه أن يكشفهم ويعلن عنهم . ولا يكاد يمر يوم في المدن الكبرى من غير ارتكاب جريمة قتل لأجل السرقة ) (ويكفي أن نعلم أن حد السرقة لم ينفذ إلا ست مرات في أربعمائة سنة لنعرف أنها عقوبات قصد بها التخويف الذي يمنع وقوعها ابتداء. كما أن معرفتنا بطريقة الإسلام في وقاية المجتمع من أسباب الجريمة قبل توقيع العقوبة تجعلنا في اطمئنان تام إلى العدالة في الحالات النادرة التي توقع فيها هذه الحدود ) ( فقطع طرف واحد ، كما أنه تنكيل بالمجرم وزجر له ، فإنه يؤدي إلى زجر الجناة من أمثاله ، وحفظ مئات الأرواح ، وآلاف الأطراف سليمة طاهرة ، عاملة منتجة .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( العقوبات في الإسلام : أهدافها ،أنواعها ،والشبهات المثارة حولها)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن الشبهة المثارة حول العقوبات في الاسلام، حول عقوبة القصاص : (قالوا : إن القصاص عقوبة قاسية لا تراعي شخصية المجرم وظروفه ودوافعه ، كما أن جعل القصاص حقاً لأولياء القتيل ؛ فيه تغليب لجانب الانتقام ، واعتباره أساساً للعقاب ، وهذا من الهمجية الأولى ، ولا يتفق مع التحضر والمدنية ، واعتبار العقاب تهذيباً واستصلاحاً ) – ولدحض هذه الشبهة نقول :(أما أن القصاص عقوبة قاسية فهذا حق ، ولكنها هي مقتضى العدل والإنصاف ؛ لأن القصاص يفعل بالجاني مثل فعله بالمجني عليه ، فهو جارٍ على سنن المساواة بين الجريمة والعقوبة مساواة دقيقة ، ولا ظلم في القصاص ، بل الظلم أن يُترك الجاني من غير قصاص . وأما إهمال شخصية المجرم ، فقد ذكرت فيما سبق أن الشريعة تراعي شخصية المجرم بالقدر الذي تستلزمه هذه الرعاية ، فلا تقيم القصاص إلا على من كان عامداً عاقلاً بالغاً . فإن كانت الجناية خطأً أو شبه عمد ، فلا قصاص ، وإن كان الجاني صغيراً أو مجنوناً ، فعمده خطأ ، ولا قصاص عليه أيضاً . أما تجاوز هذه الحدود بحجة ملاحظة نفسية المجرم وميوله وتربيته ؛ فإن ذلك من شأنه أن يوقع في متاهات الأهواء ، ويجعل أحكام القصاص مضطربة قلقة ، ويؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب ، وانتشار الجريمة وعدم السيطرة عليها . وأما اعتبار القصاص من حق المجني عليه أو أوليائه ، لا من حق المجتمع ، فإن هذا من حسنات تشريع هذه العقوبة ، لا من مثالبها ؛ لأن الجريمة تمس المجني عليه وأهله مباشرة ، فهم الذين اكتووا بنارها ، وتلوعوا بما وقع على قريبهم . أما تضرر المجتمع فيأتي بصورة غير مباشرة . فكان من العدل والحكمة شفاء غيظ المجني عليه خاصة ، وإطفاء نار الغضب في نفسه بتمكينه من القصاص إن أحب أو الدية أو العفو المطلق . ولا شك أن العناية بشفاء غيظ المجني عليه وتمكينه من الجاني عليه ، يقتل في نفسه الرغبة في الثأر والانتقام، ويمنعه من الإسراف في القتل والاعتداء . وإذا عفا المجني عليه أو وليه عن الجاني ؛ فللقاضي أن يعاقبه بعقوبة تعزيرية تتناسب مع جرمه وحاله حفظاً للنظام العام ، وحماية لحق المجتمع . ويتأكد ذلك إذا كان هذا الجاني معروفاً بالشر والفساد )
ومن الشبهة المثارة حول العقوبات في الاسلام، حد شرب الخمر : (فقد زعم بعضهم أن تنفيذ حد السكر فيه انتهاك صارخ لحرية الإنسان الشخصية، وتدخّل في خصوصياته، فضلاً عن ما فيه من الغلظة والقسوة التي يأباها عالمنا المتحضر اليوم) والجواب على هذه الشبهة من وجوه: – إن الإنسان في الشريعة الإسلامية ليس له الحرية المطلقة في مأكله ومشربه، بل هنالك ما هو ممنوع من تناوله لسبب من الأسباب كالضرر والقذارة ونحوهما. – اهتم الشارع بالحفاظ على سلامة العقل البشري، فقطع كل الوسائل المؤدية إلى تغييبه أو إتلافه والخمر من أخطر هذه الوسائل. – وإن الخمر تضع متعاطيها في وضع مزرٍ مهين غير لائق بالحيوان، فضلاً عن الإنسان، فتخرجه عن احتشامه ووقاره بل وعن بشريته في بعض الأحيان، فالخمر تحدث تغييرًا ضارًا في نفسية الإنسان، فتولد فيه الشعور بالنقص والاحتقار والقلق والاضطراب النفسي. – وإنها إسراف للمال فيما يضر ولا ينفع، يكلف الفرد والدول الخسائر الفادحة. – وإنها تحول الإنسان إلى شخص أناني ينفق ماله على ملذاته وشهواته ويترك زوجته وأولاده دون رعاية واهتمام، فمن ذلك كله يعلم لماذا جاء الشرع بتحريم الخمر وترتيب العقوبة الرادعة على من شربها )
ومن الشبهة المثارة حول العقوبات في الاسلام، حد القذف : (زعم بعضهم أن حد القذف وهو الجلد ثمانين جلدة شديد قاسي لا يصلح لزماننا هذا) والجواب على هذه الشبهة من وجوه: – (حد القذف حكم ثابت في الشريعة الإسلامية لا يحل لأحد تعطيله علمنا الحكمة منه أم لم نعلم. قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 4-5]. – وحد القذف يرد للمجني عليه اعتباره، ويعيد عليه كرامته. – وما في هذا الحد من وقاية أعراض الناس بمنع إلصاق التهم بهم وتشويه سمعتهم. – وترك إقامة الحد يجرئ السفهاء على اتهام الشرفاء، مما يزرع في المجتمع بذور الحقد والبغضاء والكراهية بين الناس، وربما أفضى بالمجني عليه إلى الانتقام بالقتل أو غيره حتى يسترد كرامته. – وإن القاذف حين يقذف أخاه فإنه يؤلمه إيلامًا نفسيًا، فكان من المناسب إيلام القاذف بدنيًا، ونفسيًا جزاء صنيعه. – ولما كان القاذف يريد بقذفه تحقير المقذوف كان جزاؤه أن يحقر من الجماعة كلها، وذلك بإسقاط عدالته؛ فلا تقبل له شهادة، ويوصف بالفسق حتى يتوب توبة نصوحًا. – وأن الإسلام يسد جميع الأبواب المفضية إلى الزنا ويعالجها بشتى الطرق، فالرمي بالزنا وكثرة سماعه قد يهونه في النفوس مما قد يغري بهذه الجريمة، فإذا كانت نادرة الذكر في المجتمع فإنها تبقى مرهوبة لدى الناس، مستبشع الوقوع فيها، وبذلك نحافظ على نزاهة المجتمع وطهارته )
أيها المسلمون
يظهر لنا بأن هذا الدين الحنيف تُثار عليه بين الفينة والأخرى عدة شبهات لتنفير الناس عنه إلا أن الله عز وجل مظهره وناصره ولو بعد حين , لذا لزم على أهل العلم وطلبته معرفة الشبهات التي تُثار حوله والرد عليها وتجليتها
الدعاء