خطبة حول قوله تعالى ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ )
مايو 9, 2023خطبة عن (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ)
مايو 10, 2023الخطبة الأولى (العلم الضار)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (83) غافر، وجاء على لسان قارون: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (78) القصص
إخوة الإسلام
نعم للعلم فوائد جمة، فالعلم النافعة تصلح به العقائد، وتزكي به النفوس، وتهذب به الأخلاق، وتكون به الأعمال الصالحة مثمرة الخيرات، والعلم هو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، ومنار سبيل الجنة، وهو عبادة جليلة من أجل العبادات، يقول أحدهم: “لا أعلم على وجه الأرض عملاً أفضل من طلب العلم” ، فمن غرس العلم اجتنى النباهة، ومن غرس الوقار اجتنى المهابة. وقال ابن حزم: ” لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع المشتغل به الوساوس المضنية، ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم، وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس، لكان ذلك أعظم داع إليه، فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره”.
لذا فقد أعطى الدين الاسلامي الحنيف للعلم منزلة عظيمة، لا تضاهيها منزلة، وحثَ على طلب العلم النافع، والاستزادة فيه، حيث كان أول أمر أنزله الله في محكم كتابه ” اقرأ”، وهناك الكثير من الاحاديث النبوية الشريفة التي حضَت على طلب العلم، وذكّرت بفضله، ورغّبت في طلبه بإخلاص وصدق، لتستنهض همم طُلابه، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ». فالعلمُ هو المصباح الذي يُنيرُ دُورب الحياة، ويُخرج الانسان من حصون الجهل والظلام، إلى رياض المعرفة والنور، وقد شرف الله تعالى العلم وأهلهُ، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، ومنارةً يُهتدى بهم، وأكرمهم بالسمو والتَمكين، إذ قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (9) الزمر، وفي سنن أبي داود: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ».، فللعلم قداسةٌ وتعظيم يحظى بها كلَ من ظفر به، وحاجة الانسان للعلم ماسةٌ، فهي ضرورةٌ لتيسير العيش، كما أنَ للعلم آثاراً بالغة الأهمية في حياة الفرد والمجتمع،
أيها المسلمون
وليكن معلوما لديكم أن العلم علمان: علم نافع مفيد، وعلم ضار مفسد، والعلم النافع ينقسم إلى قسمين: علم ديني شرعي: وهو ما يتفقّه به العبد في دين الله عز وجلّ، ويعرف به هدى الله عزّ وجلّ في شؤونه كلها من الاعتقاد والعبادات والمعاملات وغيرها. وعلم دنيوي: وهو العلم الذي ينفع المرء في دنياه كالطب والهندسة والزراعة والتجارة والصناعة وغيرها من العلوم الدنيوية التي ينتفع بها الناس في حياتهم ومعايشهم.
ومن العلوم الضارة؛ السحرُ والتنجيمُ والكهانةُ وعلم الكلامِ والفلسفةُ وغيرها من العلوم التي تخالف هُدَىٰ الشريعة، وفيها انتهاكٌ لحرماتِ الله عز وجل، وقولٌ على الله بغير علم، واعتداءٌ على شرعه، واعتداءٌ على عباده، فكل ذلك من العلوم الضارة التي لا تنفع. والعلوم التي لا تنفع كثيرة قد افتتن بها كثير من الناس، وتتجدد في كلّ زمان بأسماء مختلفة، ومظاهر متعدّدة. ومن أبرز علاماتها: مخالفة مؤداها لهدي الكتاب والسنة؛ فكل علمٍ تجده يصدُّ عن طاعة الله، أو يُزيِّن معصية الله، أو يؤُول إلى تحسين ما جاءت الشريعة بتقبيحه، أو تقبيح ما جاءت الشريعة بتحسينه، أو يشكّك في صحّة ما ثبت من النصوص؛ أو يخالف سبيل المؤمنين؛ فهو علمٌ غير نافع، وإن زخرفه أصحابه بما استطاعوا من زُخرُف القول، وإن ادّعَوا فيه ما ادّعَوا من المزاعم والادّعاءات، فكل علمٍ تكون فيه هذه العلامات فهو علمٌ غير نافع.
والفضول قد يدفع المتعلم إلى القراءة فيما لا ينفع، فيعرّض نفسه للافتتان به، وهو ضعيف الآلة في العلم، وقد قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النور (63). وقد افتتن بعض المتعلمين بعلم الكلام بعد أن كانوا في عافيةٍ منه حتى صعب عليهم التخلّص منه، وسبب ذلك مخالفتهم لهُدَىٰ الله تعالى، واتباعهم غير سبيل المؤمنين. وكم من طالب علم كان يأمن على نفسه الفتنة، ويغترّ بما حصّله من علم، ودفعه الفضول وضعف الإيمان إلى الاجتراء على ما حذّر النبيّ صلى الله عليه وسلم منه، وبيّن لأمّته خطره من العلوم التي لا تنفع؛ فافتتن بها، وغرّه ما زُيّن له فيها؛ حتى ضلّ بسببها، فمنهم من مات على ضلاله، ومنهم من أدركته التوبة في آخر حياته، وأخذته الندامة على ما ضيّع من عمره في العلم الذي نُهي عنه.
فالعلم الضار محرم على الإنسان أن يَطلبَهُ، وواجب عليه أن يتجنبهُ. وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم الذي يضر ولا ينفع، فمن دعائه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا»، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ ) رواه ابن ماجه.
أيها المسلمون
ومن العلوم الضارة: تعلم كيفية تصنيع القنابل والصواريخ التي يمكن ان تفتك بالدول والمجتمعات، وتشرد الأسر، وتقتل الأرواح، بالإضافة إلى تعليم السحر وإيذاء الناس، ومن العلوم الضارة: بعض العلوم المتعلقة بالنجوم، ويسمى علم التأثير: وهو الربط بين النجوم والكواكب، وحركة الأفلاك، ومنازل القمر إلخ، وبين الحوادث الأرضية؛ بحيث يعتقد أنه إذا جاء النجم الفلاني في المكان الفلاني، أو طلع النجم الفلاني في المكان الفلاني، فسوف يحدث كذا وكذا في الأرض، أو أن هذا دليل على أن عظيماً قد ولد، أو هذا دليل على أن عظيماً قد مات، أو هذا يدل على أن كارثة وحرباً ستقع، وهذا كذا.
ومن هذا -أيضاً- قضية الأبراج التي تنشرها بعض المجلات والجرائد وغيرها، فهذا العلم حرام، وتعلمه حرام، ونشره حرام، وقراءته حرام ، وفي سنن أبي داود: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ ».والعيافة: هي زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وصفاتها، والطرق: الضرب بالحصى أو الخط بالرمل، أو ما يفعله البعض من رمي الودع، وذلك كله حرام، وتعلمه حرام، والعمل بمقتضاه كُفر، ومنها أيضا: علم الفلاسفة والدهريين عن بنى يونان، وكانوا إذا سمعوا بوحى الله دفعوه، وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم
أيها المسلمون
وهكذا يتبين لنا أن من العلم ما هو ضار غير نافع، فلا ننبهر بما جاءنا به العلم، حتى خُيِّل إلينا أننا قد أصبحنا أسياد هذا الكون، والمتحكِّمين فيه، وقد بلغ انبهار البعض بالعلم حدَّ جعله احيانا يستعيض به عن الدين، علما بأن العلم فيه ما هو كفيلٌ بإيرادنا مورد التهلكة، طالما لم يكن بُنيانه قد أُسِّس على تقوى من الله ورضوان. وكفى ببعض العلم مضرةً أنه يجعل من صاحبه مغروراً فيحجبه غروره هذا عن الحقيقة، فقد جاء في التفسير الميسر، في تفسير قوله تعالى: (فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ) (83) غافر، يقول: (فلما جاءت هؤلاء الأمم المكذبة رسلُها بالدلائل الواضحات، فرحوا جهلا منهم بما عندهم من العلم المناقض لما جاءت به الرسل، وحلَّ بهم من العذاب ما كانوا يستعجلون به رسلَهم على سبيل السخرية والاستهزاء. وفي الآية دليل على أن كل علم يناقض الإسلام، أو يقدح فيه، أو يشكك في صحته، فإنه مذموم ممقوت، ومعتقده ليس من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم).
فحين جاء الرسل إلى هؤلاء الجاهلين، فرحوا بما لديهم من العلوم الدنيوية كالتجارة والزراعة ،واغتروا بتلك القشور التي كانوا يسمعونها ممن كانوا يزعمون أنهم على شيء من العلم الديني، واستهزأوا بما جاءهم به الرسل من علوم تهدى إلى الرشد، وتدعو إلى إخلاص العبادة لله. واعتقدوا – لغبائهم – وانطماس بصائرهم – أنه لا علم أنفع من علومهم ففرحوا بها.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( العلم الضار )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وفي كتاب الظلال لسيد قطب، يقول في تفسير قوله تعالى: (فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ) (83) غافر، يقول: (والعلم – بغير إيمان – فتنة. فتنة تعمي وتطغي. ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة ، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها ! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها. وهي موجودة في هذا الكون؛ ولا سلطان له عليها. بل لا إحاطة له بها. بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة. وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته. ويستخفه علمه وينسى جهله. ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره، لطامن من كبريائه، وخفف من فرحه الذي يستخفه. وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم، واستهزأوا بمن يذكرهم بما وراءه وهو الحق من ربهم)
لذلك، كان التعامل مع العلم يتطلب قلباً حياً، وعقلاً راجحاً، يُمكِّنان المرء من تبيُّن ما انطوى عليه هذا العلم من باطن قد يودي بالمرء إلى التهلكة، إن هو لم يحذر من الضياع في متاهات نظرياته، ولذلك، كان الأجدر بالمرء أن يكون على بصيرةٍ قبل أن يسارع إلى اعتماد العلم منهجه، وإلا فلن يكون بمأمنٍ من أن يُضِله العلم الذي ظن أنه هاديه إلى سواء السبيل،
فعليك أخي المسلم أن تكون ذا بصيرةٍ تُمكِّنك من تبيُّن العلم النافع من الضار، وتحرص على أن تأخذ من العلم ما هو نافعٌ غير ضار، وتُعرِض عن كل علم يضر ولا ينفع. وتحرص على أن يكون لك قلبٌ وعقل يميز الغث من السمين، أكثر من حرصك على أن تأخذ من العلم غثَّه وسمينه، وأنت لا تدري أن السُّمَ في الدسمِ .
الدعاء