خطبة حول قوله تعالى (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)
يوليو 11, 2023خطبة عن (القول الحسن)
يوليو 11, 2023الخطبة الأولى (العلم والخشية)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (28) فاطر
إخوة الإسلام
إن الذي يخشى الله تعالى حقَّ خشيته هم العلماءُ العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة لله تعالى أتَم، وكلما كان العلم به أكمل، كلما كانت الخشية له أعظم وأكثر. قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة في “مجموع الفتاوى”: “قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (28) فاطر، المعنى: أنه لا يخشاه إلا عالِمٌ؛ فقد أخبر الله أنَّ كلَّ مَن خشِي الله فهو عالِم، كما قال في الآية الأخرى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر:9)،
فبنظرة تأمُّلٍ يسيرة نلحظ أنَّ ثناءَ الله تعالى على ذلك العلم الحقيقي الذي يسوق ويقود صاحبه إلى الله – عزَّ وجلَّ – يكون بالعلم بالله وبالعمل بما يرضيه بالقنوت آناء الليل ساجدًا وقائمًا، خاشعًا لله تعالى، خائفًا من أهوال يوم القيامة، يرجو ما عند الله من رحمة ومغفرة.
فالعلمُ الحقيقي هو أن تُقْبِل على الله بالصلاة والذكر والدعاء، وتتقلَّبَ بين خوفك منه تعالى ورجائك منه، وهذا حقيقة التوحيد ولب العبادة.
والعلم والنافع هو الذي يزكي النفوس، ويهذبها ويرقق القلوب، ويبعث فيها الخشية لله، والإنابة إليه. وقال ابن رجب -رحمه الله-: “وأصل الاستقامة: استقامة القلب على الإيمان حبًّا لله وخوفًا ورجاءً، وتوكلًا وإنابةً وشوقًا إليه، وزهدًا في الدنيا ورغبة في ما عند الله، وشكرًا لنعمه، وصبرًا على بلائه ورضًا بقضائه، فاستقامة القلب على الإيمان: هو أصل الاستقامة التي أمر الله بها، وهو الذي يتفرع عليه بعد ذلك أنواعها من استقامة جميع الجوارح على الإسلام، وهذا كله ثمرة العلم النافع الذي يباشر القلوب؛ فيوجب لها السكينة والخشية والإخبات، والتواضع والانكسار، وإذا لم يباشر القلب ذلك العلم وإنما كان على اللسان؛ فهو حجة الله على ابن آدم تقوم عليه وعلى غيره”. وقد روى الترمذي في سننه بسند حسن (عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ : « هَذَا أَوَانٌ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لاَ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ ». فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الأَنْصَارِيُّ كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَوَ اللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ « ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِى عَنْهُمْ ». قَالَ جُبَيْرٌ فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قُلْتُ أَلاَ تَسْمَعُ إِلَى مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِنْ شِئْتَ لأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَلاَ تَرَى فِيهِ رَجُلاً خَاشِعًا. وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: ” لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرَّوِايَةِ ، إِنَّمَا الْعِلْمُ الْخَشْيَةُ ” .
أيها المسلمون
ولما كان أعلم الخلق بالله تعالى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان هو أعلم الناس بالله تعالى، ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ قَالُوا إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ يَقُولُ «إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَفْتِيهِ وَهِيَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُدْرِكُنِي الصَّلاَةُ وَأَنَا جُنُبٌ أَفَأَصُومُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلاَةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ». فَقَالَ لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ «وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي».
أيها المسلمون
وخشية الله تعالى مقام من أعلى المقامات، وصفة من أسمى وأعلى الصفات, بل هي شرط من شروط الإيمان قال الله تعالى : ” فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ” التوبة:13.
والخشية خلق لا يتصف بها إلا عباد الله المتقين وأوليائه المحسنين: قال الله تعالى:
” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (2) الأنفال. قال الإمام الطبري رحمه الله: ” ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله، ويترك إتباع ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه، والانقياد لحكمه، ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وَجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وفَرَقًا من عقابه”. وقال تعالى : ” اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (23) الزمر. وروى الترمذي في سننه: (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ :« كَيْفَ تَجِدُكَ ». قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ ».
وقد أجمع العلماء العارفون على أن الخشية محلها القلب، فالعلم النافع هو الذي يباشر القلب فيوجب له السكينة والخشية والإخبات لله والتواضع والانكسار، فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنها- قالت: كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله، تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
والعلم ليس مبناه على الكثرة والقلة، ولكن على الخشية، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية). فالإنسان إذا عَرف الله عز وجل حقَّ المعرفة، فلا بُدَّ أن تقع في قلبه خشية الله؛ لأنه إذا علم ذلك عَلِمَ عن ربٍّ عظيم، قويٍّ، قاهرٍ، عالمٍ بما يُسرُّ ويُخفي، فتجد الإنسان يقوم بطاعة الله عز وجل، أتمَّ قيام.
أيها المسلمون
وأعلموا أن من أعظم الأسباب التي تورث القلب الخشية: تدبر كتاب الله عز وجل ،والإقبال عليه ، فمن وقف عند حدوده ،وعرف حلاله وحرامه، أوجب له ذلك الخوف من الله، والعمل بما علم ، وكذلك تعلق القلب بالآخرة، فمن علق قلبه بالآخرة، عرف للدنيا قدرها، وزهد فيها ، فقصر أمله، وسابق لعمل الخير، وكل ما يقربه إلى ربه، وأيضا دوام المراقبة؛ فمن استشعر مراقبة الله له، وأنه مطلع عليه، استحيا من مخالفة أمره، أو التقصير في طاعته.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (العلم والخشية)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن كان مستحضرًا لخشية الله في طلبه للعلم، ظهر ذلك عليه في أشياء؛ منها: أن يعمل بعلمه :عقيدةً، وعبادةً، وأخلاقًا، وآدابًا، ومعاملةً، ومن عمل بما علم، فالناس يقتدون به، فعن الأعمش قال: كانوا يتعلمون من الفقيه كل شيءٍ حتى في لباسه ونعْليه.
ومن ثمرات العلم: أن يكون صدر المتعلم رحبًا في مواطن الخلاف، وأن يتجنب التنازع الذي يؤدي إلى النزاع والخصام وبث الفرقة وذَهاب القوة؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].
ومن ثمرات العلم: أن يكون المرء محترمًا للعلماء، عارفًا لهم فضلهم وشرفهم، ومكانتهم في الأمة، وأنهم غير معصومين من الخطأ، ولكن هذا الخطأ لا يبرر اغتيابهم، بل يعتذر لهم وينبِّههم إلى ما وقع منهم بأحسن طريقة، وأفضل عبارة، وفي اغتياب المسلمين سوء ظن، فينبغي الحذر منه.
ومن ثمرات العلم: أن يكون المتعلم داعيًا إلى الله عز وجل بحكمة في كل مناسبة تسنح له، فهو يدعو إلى الله بلسانه وقلمه وسَمته، ومعاملته وأخلاقه.
ومن ثمرات العلم: ألا يتَّبع العالم أخطاء الآخرين، ولا يفرح بزلَّةٍ صدرتْ من إخوانه، فضلًا عن أن يستغل هذه الزلة ليقدح فيمن صدَرت منه.
ومن ثمرات العلم: أن العالم لا يضمر الحسد للناس، فضلًا أن يكون ذلك لإخوانه من طلاب العلم، وكما قيل: “ما خلا جسدٌ من حسد، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه”، فطالب العلم الذي يخشى الله حقَّ خشيته يجاهد نفسه ويدعو ربه أن يصرِفه عنه.
ومن ثمرات العلم: أن المعالم لا يفتي بغير علم، ويقاوم فتنة حب الظهور، ومن صدق أعانه الله.
ومن ثمرات العلم: أن العالم متواضع لا يحتقر أحدًا، ولا يتطاول بسوء الأدب على أيِّ أحد صغيرًا كان أو كبيرًا، ويقبل الحق ممن جاء به ولو كان أقل منه منزلةً، ولا يَحقِر مَن دونه في العلم، ولا يحسد مَن فوقه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: آفة العلم: الكبر. ومن ثمرات العلم: أنه متجنب للجدال والمراء؛ لأنهما يغلقان طريق الصواب، ويحملان الإنسان على الكلام انتصارًا لنفسه، إضافة إلى أنهما يجلبان العداوة والشحناء.
الدعاء