خطبة عن (لَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)
أكتوبر 2, 2024خطبة عن (كيف نعظم الله تعالى)
أكتوبر 2, 2024الخطبة الأولى (الفرار إلى الله)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (50)، (51) الذاريات
إخوة الإسلام
يقول العلماء في بيان معنى الفرار إلى الله تعالى: (فروا إلى الله بالرجوع إليه، وبالتوبة من ذنوبكم، واعملوا بطاعته، وابتعدوا عن معاصيه)، وقد سمى الله الرجوع إليه فرارًا: لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره إلى قضائه وقدره، وقد قيل: كل من خفت منه فررت منه، إلا الله تعالى؛ فإنه بحسب الخوف منه، يكون الفرار إليه.
وفي قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) فهذه دعوة من الله لعباده، ليرجعوا إليه، ويُنيبوا إلى سَعَةِ رحمته ومغفرته، فمَن لك إلا الله؟، ومَن ينجيك مما تخاف إلا الله؟، ومن يحقق لك آمالك إلا الله؟، فلا ملجأ ولا منجى ولا مهرب منه إلا إليه.
ولكن للأسف، فكم من عبد تباطأ في فراره إلى الله، والتفت إلى الدنيا، فأسرته، فشُغل عن الفرار إلى الله بجمع الأموال، أو شغل عن الفرار إلى الله بزوجته وأولاده، أو شغل عن الفرار إلى الله بمنصبه وجاهه، فهلك مع الهالكين، يقول الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} الحديد:20، وفي صحيح مسلم: (يقول صلى الله عليه وسلم: (أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا وَتَقْتَتِلُوا فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»، وفي سنن ابن ماجه: (يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ»
وفي قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ): فهذا يعني أن الملك كله له، والأمر كله له، والحمد كله له والشفاعة كلها له، والخير كله في يديه، فقد تفرد سبحانه بالربوبية والألوهية، فلا إله غيره ،ولا رب سواه، قال تعالى: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ الزمر:38، فاستعِذ به منه، وفِر منه إليه، فالأمر كله له، لا يملك أحد معه منه شيئا، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) آل عمران:154،
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}: فالله تعالى لم يجعل الفرار إليه صعبا، بل جعله سهلا ميسورا، فيسر لنا سبله، فأنت تستطيع أن تفر إلى الله على كل حال من أحوالك، فبخروجك للكسب الحلال لتعف نفسك وأهلك عن الحرام، فأنت تفر إلى الله، وبقيامك للصلاة تفر إلى الله، وبذكرك لله تفر إلى الله، وبقراءتك للقرآن تفر إلى الله، وبالصدقة على المحتاجين تفر إلى الله، وبصلتك لرحمك تفر إلى الله، وبأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر تفر إلى الله، وبتربيتك لأولادك على هدي الشريعة تفر إلى الله.
أيها المسلمون
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}: إنه فرارٌ من الجهل إلى العلم، ومن الكسل إلى الجد والعمل، وفرارٌ من الضيق إلى السَعَةِ، وإنه فرارٌ من الخوف إلى الطمأنينة، ومن معاصيه إلى طاعته، ومن عقاب الله إلى رحمته، إنه الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا، إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا ، وفرار من الكفر إلى الإيمان، و من الغفلة إلى الذكر، وفرار من طاعة الشيطان، إلى طاعة الرحمن، ومن كفر النعم إلى شكرها.
ففروا إلى الله: بالتوبة من ذنوبكم، فلا ملجأ للعبد من الله سبحانه إلا إليه، وفي صحيح مسلم: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- ، أنها سمعت رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول وهو ساجد: (اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، فلن تجد أكرم وأجود من الله تعالى، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّى ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً».
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}: فلن تجد أحلم وأرحم من الله، ففي الصحيحين: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ – رضى الله عنه – قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – سَبْيٌ ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي ، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ». قُلْنَا لاَ وَهْىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ «اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ». وفيه أيضا: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ»، وفيه: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ».
أيها المسلمون
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}: فإذا علم الله تعالى من عبده صدق الفرار إليه، أعانه، ووفقه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} العنكبوت:69، وفي الصحيحين: (قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»، فهذا ربكم يعينكم على الفرار إليه، ويفرح بتوبتكم والرجوع إليه، ففي صحيح البخاري: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً، وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي. فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ».
أيها المسلمون
والفرار إلى الله تعالى يقتضي أمورا، منها : التأهب والاستعداد لذلك، ويقتضي القوة والعزم على الفرار، والسير في الطريق إلى الله تعالى، ويقتضي المبادرة والمسارعة والمسابقة، فقد قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (133) آل عمران، وقال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (21) الحديد، وقال تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (48) المائدة، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ». فإِذا هَمَمْت فبادر، وَإِذا عزمت فثابر، وَاعْلَم أَنه لَا يدْرك المفاخر من رَضِي بالصف الآخر.
والفرار إلى الله يتطلب عدم الالتفات لغير الله، فالذي يفرَّ إلى الله لا تعنيه الأشكال، ولا تعنيه المظاهر، لا تعنيه الألقاب، لا تعنيه المراتب العالية، ولكن يعنيه الاتصال بالله، والإخلاص لله ،ويعنيه العمل الصالح الذي يرضي الله، ويعنيه الشوق إلى الله، لأن فراره فرار داخلي، فقد فرَّ من نفسه إلى الله، ومن حظوظه إلى الله، ومن همومه إلى الله، ومن رغباته إلى الله، ومن حركاته وسكناته إلى الله، ولسانه حاله يقول: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26] ويقول: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]
ويقول (أبو إسماعيل الهَرَوِيُّ): أن الفرار هو الهرب مما لم يكن، إلى ما لم يزل، والفرار إلى الله تعالى على ثلاث درجات: فرار العامة من الكسل إلى التشمير حذرًا وعزمًا، ومن الضيق إلى السَّعة ثقةً ورجاءً، ومن الجهل إلى العلم عقدًا وسعيًا. وفرار الخاصة من الخبر إلى الشهود، ومن الحظوظ إلى التجريد، ومن الرسوم إلى الأصول. وفرار خاصة الخاصة مما دون الحق إلى الحق، ثم من شهود الفرار إلى الحق، ثم الفرار من الفرار إلى الحق.
أيها المسلمون
وهذه بعض النماذج والصور للفرار إلى الله: فالفرار إليه بالتوبة الصادقة: ومثال ذلك فرار الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، قال الله تعالى في شأنهم: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]
ومن أمثلة الفرار إلى الله عند الفتن، فرار الفتية أصحاب الكهف، قال تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) (13)، (16) الكهف، وروى البخاري في صحيحه: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ،يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الفرار إلى الله)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والفرار إلى الله -عز وجل- أمٌر يتجدد مع المؤمن بتجدد الليالي والأيام؛ فإن الفتن تلاحقه، والصوارف والصواد تطارده، والشيطان من جهته قاعد له بالمرصاد، وهناك نفس أمارة بالسوء، وهناك أبوابٌ على كل باب منها شيطان يدعو إليه؛ فالمقام مقامٌ عظيم جدا، يحتاج من العبد المؤمن صادق الإيمان أن يحسن الفرار إلى الله، طالبًا بفراره إلى الله أن يخرج من هذه الحياة الدنيا وقد نجا من سخط الله، وفاز برضوانه.
وهذا التجدد في الفرار إلى الله هو تجددٌ في الإيمان، وحسن الصلة بالله، وفي الصحيحين؛ عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، وَقُلِ: “اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ”، وَاجْعَلْهُنَّ مِنْ آخِرِ كَلاَمِكَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مُتَّ وَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ”.
فأيها الغافل عن ربك، إذا لم تفر إلى الله الآن، وأنت بكامل قوتك وعافيتك، فمتى تفر؟، أتفر بعد أن يشيب شعرك، وتضعف قوتك، وتتراكم على جسدك الأمراض والعلل؟، أتفر إلى الله بعد أن تشخص عينك، وتشل أطرافك، وتصبح جثة هامدة؟، فكم من غافل عن الله حتى فاجأه الموت، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (99)، (100) المؤمنون
ولم لا نفرِّ إلى اللَّهِ، والخطرُ عظيم، والخطبُ جلل، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} الحج (1)، (2).
ولم لا نفر إلى اللَّهِ، والفتن شديدة، والصوارفُ كثيرة، والدنيا فتَّانة، والشيطانُ متربص، والنفسُ أمارةٌ بالسوء. ولم لا نفر إلى اللَّهِ: فمن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعةَ اللهِ غالية، ألا إن سلعة اللهِ الجنة. (فَفِرُّوا إلى اللَّهِ): وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَن تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَقْوَالَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَن عليكم،
(فَفِرُّوا إلى اللَّهِ) فمهما طال الإمهال، فلا بد من نهاية الآجال، فاليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، والكيِّسُ من دانَ نفسَه، وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجِزُ من أتبعَ نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني.
(فَفِرُّوا إلى اللَّهِ): فما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حجابٌ ولا ترجمان، فينظرَ عن يمينه وعن شمالهِ فلا يرى إلا ما قدمَ من عمله، وينظرَ أمامهُ فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهه، فاتقوا النارَ ولو بشقِّ تمرة.
الدعاء