خطبة عن (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) مختصرة
سبتمبر 8, 2024خطبة عن (حرص الرسول) 2
سبتمبر 15, 2024الخطبة الأولى ( يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام البخاري في صحيحه : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ خَيْرُ مَالِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْغَنَمُ ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ »، وفي الصحيحين : (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « سَتَكُونُ فِتَنٌ ،الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ،وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي ،وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ،وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ ،وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ »
إخوة الإسلام
يُبيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للصَّحابةِ الكرامِ (رضي الله عنهم) ولأمته من بعده: أنَّه يقرُبُ أن تتغيَّرَ وتتبدَّلَ الأحوالُ ،وتحلَ الفِتَنُ ،فإذا ظهرت الفتن وعمت، وتشابكت الأمور واختلطت، وخشي المؤمن على دينه، وفتن في عقيدته، فإنَّ خيرَ مالٍ يتَّخِذُه المسلِمُ- حينئذٍ- هو الغَنَمُ؛ لأنَّ المعتزلَ عنِ النَّاسِ بالغَنمِ يأكلُ مِن لحومِها ونتاجِها، ويشرَبُ مِن ألبانها، ويستمتعُ بأصوافِها باللُّبسِ وغيرِه، وهي ترعى الكلأَ في الجبالِ، وترِدُ المياه، وهذه المنافعُ والمرافِقُ لا توجَدُ في غيرِ الغَنمِ، وكذلك هي في نموِّها وزيادتِها أبعَدُ مِن الشَّوائبِ المحرَّمةِ؛ كالرِّبا، والشُّبهاتِ المكروهةِ ،وهي سهلةُ الانقيادِ، خفيفةُ المَؤُونة، كثيرةُ النَّفعِ، فيرعاها ويَتْبَعُ بها شَعَفَ الجبالِ، أي: رؤوسَها وأعاليَها؛ فإنَّها تعصِمُ مَن لَجَأ إليها مِن عدوٍّ، ومواقِعَ القَطْرِ؛ لأنَّه يجِدُ فيها الكلأَ والماءَ، فيشرَبُ منها، ويسقِي غَنَمَه، وترعى غنَمُه مِن الكلأِ ،
ففي هذا الزمان يهرُبُ المؤمن ويعتزل الناس خشيةً على دِينِه مِن الوقوعِ في الفِتَنِ؛ فإنَّ مَن خالَط الفِتَنَ لم يسلَمْ دِينُه مِن الإثمِ، وقد مدَح اللهُ سبحانه وتعالى مَن فَرَّ بدِينِه خشيةَ الفِتنةِ عليه ،فقال حكايةً عن أصحابِ الكهفِ: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16].
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعاب والجبال وإتباع الغنم لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها الناس ، ولكن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في هذا المعنى ،مثل الاعتكاف في المساجد ، أو لزوم البيوت فرارا عن شرور الناس ،لأن من نأى بنفسه عنهم ،سلموا منه، وسلم منهم ،لما في مجالستهم ومخالطتهم من الخوض في الغيبة واللغو وغيرها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يدلنا ويرشدنا إلى أفضلية العزلة عن الناس وترك الاختلاط بهم، في حال خوف المسلم على دينه لكثرة الفتن، بحيث إنه لو خالط الناس لا يأمن على دينه من أن يرتد عنه، أو يزيغ عن الحق، أو يقع في الشرك، أو يترك مباني الإسلام وأركانه، ونحو ذلك. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (وَالْخَبَر دَالّ عَلَى فَضِيلَة الْعُزْلَة لِمَنْ خَافَ عَلَى دِينه) ،
والذي ينبغي على المسلم فعله أيام الفتن: أن يتقي الله تعالى ،ويتجنب الخوض في الفتن ، والمشاركة في إشعال فتيلها ،وخاصة ما يتعلق بالقتال بين المسلمين التي تسفك فيها الدماء المحرمة، والمسلم مطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيام الفتن وغيرها، فإن كان يستجاب له وينصت لقوله فوجوده خير بينهم، وإن رأى الأهواء متبعة ،وإعجاب كل ذي رأي برأيه ،فليزم خاصة نفسه، حتى يأذن الله تعالى بتغيير الحال وإصلاح الفساد ،وعلى المسلم في عصر الفتن خاصة الالتجاء إلى الله تعالى ، فهو مفتاح الفرج ،فهل يضار من ارتمى في حماه؟ ،وهل يخسر من تقرب إلى مولاه؟ ،فلا يجد المسلم في هذه الوقت إلا الله تبارك وتعالى، فهو القادر على تغيير الحال ،والخروج بنا إلى اليسر بعد العسر ،والفرج بعد الشدة، والقرآن الكريم يحكي لنا المواقف العظيمة ،والتي لم يكن لها مخرج إلا بالله تبارك وتعالى ،فقال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [يونس: 22] ،وقال الله تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].
أيها المسلمون
والإخبار بوقوع الفتن والتحذير منها هو من أعلام نبوَّته صلى الله عليه وسلم، ودلائل صدق رسالته – صلوات الله وسلامه عليه – فقد قصَّ صلى الله عليه وسلم على أمته مما اخبره الله به، مما كان ومما هو كائن إلى يوم القيامة؛ من أحداث الزمن، وطغيان الفتن، واختلاف الأمة، وأشراط الساعة،
والناس في الفتن على أحوال شتَّى؛ شرُّهم مَن ينفُخ شررَها، ويُضرِم نارَها، ويوقِظ نائمها، وأهون منه مَن يُخالطها ويهواها ويُعين عليها، وخير من هذا من يقعد بعيدًا عنها، غير مُتدنِّس بدَنَسها، ولا مُتلطِّخ بآثامها؛ فإن خشي أن تَهُبَّ عليه عاصفتها، كان أشدَّ الناس فرارًا منها، ولو أن يأوي إلى رأس جبل، أو أن يَعَضَّ بجذع شجرةٍ، وحسْبُه من القوت ما سدَّ الجوعةَ، ومن اللباس ما وارى العورة!، والمؤمن الكيِّس من أعدَّ للفتن عُدَّتَه، وبادرها بالصَّالحات قبل أن تَبْغَته؛ فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ».
ومن المعلوم أن الفتن التي تصيب الناس على درجات ، فقد يكون بعض الفتن شديدة، فيفتن الرجل في دينه وأمانته ،وكذا بالكسب من الحرام أو التعامل بالربا ،أو الوقوع في المحرمات ، فهناك في بعض بلاد المسلمين يفتنون كل من رأوه متمسكا بصلاته، أو امرأة مستورة بنقابها ، واتهموه بالإرهاب لأنه لا يوافقهم على مخالفتهم للشريعة ؛ فبعض الدولة التي يسكنها المسلمون لا تحكم بالشريعة؛ وإنما تحكم بالقانون الوضعي، فتقر بعض المنكرات، كالزنا، وشرب الخمر وبيعها، وتعطيل الحدود، فيتعرض المسلمون فيها للفتنة في دينهم ،وهنا وجب على المسلم أن يفر بدينه ،فقد (أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) رواه البخاري ومسلم ،وأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلزوم البيوت في زمن الفتن: قال عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ) رواه الترمذي وصححه الألباني ،وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ) رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني ،وقال رجل لسفيان الثوري: أوصني ،قال: “هذا زمان السكوت، ولزوم البيوت ” ،وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو، قَالَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ ذَكَرَ الْفِتْنَةَ، فَقَالَ: كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو إِذَا أُبْقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ ,قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ , وَاخْتَلَفُوا فَصَارُوا هَكَذَا. وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ : كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: الْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ ) رواه أبو داود وصححه الألباني ،وعَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ وَفُرْقَةٌ وَاخْتِلاَفٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأْتِ بِسَيْفِكَ أُحُدًا، فَاضْرِبْهُ حَتَّى يَنْقَطِعَ، ثُمَّ اجْلِسْ فِي بَيْتِكَ، حَتَّى تَأْتِيَكَ يَدٌ خَاطِئَةٌ، أَوْ مَنِيَّةٌ قَاضِيَةٌ، أَوْ يُعَافِيَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَدْ وَقَعَتْ وَفَعَلْتُ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ. رواه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْقٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ بَكَّارٍ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ: أَيْنَ تَسْكُنُ؟ قُلْتُ: بِأَنْطَاكِيَّةَ .قَالَ: “الْزَمْ بَيْتَكَ، فَإِذَا كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ، فَاقْصِدْ قَضَاءَ حَاجَتِكَ، فَمَا دُمْتَ تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِكَ إِلَى سُوقِكَ لَا يَلْقَاكَ مَنْ يَلْطِمُ عَيْنَكَ فَلَيْسَ لِحَالِكَ بَأْسٌ” ،وعن طَاوُسٍ، قَالَ: ” لَمَّا وَقَعَتْ فِتْنَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ رَجُلٌ لِأَهْلِهِ: قَيِّدُونِي فَإِنِّي مَجْنُونٌ”. فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ قَالَ: “حُلُّوا عَنِّي الْقَيْدَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِنَ الْجُنُونِ، وَنَجَّانِي مِنْ فِتْنَةِ عُثْمَانَ”
أيها المسلمون
ومِمَّا يُستفاد من هذا الحديث: أن في هذا الحديث فضل العزلة في أيام الفتن، وفيه الاحتراز عن الفتن وقد خرجت جماعة من السلف عن أوطانهم وتغربوا خوفا من الفتنة وقد خرج سلمة بن الأكوع إلى الربذة في فتنة عثمان رضي الله عنه. وفيه إخبار بأنه يكون في آخر الزمان فتن وفساد بين الناس وهذا من جملة معجزاته. وأنه سيكون مكان فرار المرء المسلم في هذا الزمان هو الجبال والصحاري وسيكون زاده هو الغنم يشرب من لبنها ويأكل من لحومها.
الدعاء