خطبة عن (نعمة الفهم)
فبراير 20, 2023خطبة عن ( الحِكْمَةُ ضالَّةُ المؤمنِ )
فبراير 21, 2023الخطبة الأولى: قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (57) يونس
إخوة الإسلام
في هذه الآية الكريمة من كتاب الله العزيز يبين الله تعالى للناس نعمته وفضله وحكمته من انزال القرآن الكريم ، فهذا القرآن العظيم هو موعظة، وهو هدى ، وفيه أحكام وتشريعات، وإخبار عن الماضي والمستقبل ، إنه موعظة للناس عامة ، وموعظة للمتقين خاصة، فالذين ينتفعون بهذا الهدى والموعظة هم المتقون الذين يتقون الله – سبحانه وتعالى -؛ يتقون غضبه وعقابه، يتخذونه وقاية تقيهم من المحاذير العاجلة والمستقبلة، أما الكفار والمنافقون والمشركون فلن يستفيدوا من هذه الموعظة والشفاء ، إلا إذا ءامنوا بالله عز وجل، وصدقوا بهذا القرآن واتخذوه حجةً لهم ،قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) فصلت 44، فالقرآنٌ يأمُرُكم ويزجُرُكم ، ويرقِّقُ قُلوبَكم، وتَصلُحُ به أحوالُكم ،وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ. وفيه دواءٌ للقُلوبِ مِن الشَّهَواتِ والشُّبُهاتِ، فيشفي من الجَهلِ والشَّكِّ، والنِّفاقِ والغَيِّ كما قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) [الإسراء: 82].،وقال الله سُبحانه: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) [فصلت: 44]. ،ومن أسرار القرآن : فيه وبيانٌ للحَلالِ مِن الحرامِ، ودليلٌ على الطَّاعةِ والمعصية، ورشدٌ لمن اتَّبَعه، وهو رحمةٌ يحصلُ به الخَيرُ والإحسانُ والثوابُ للمُؤمِنينَ ، كما قال تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2].، وقال الله سُبحانه: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) [الإسراء: 9].،
ومما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (57) يونس : ففي تفسير (الوسيط لطنطاوي) قال : والمعنى : يا أيها الناس قد جاءكم من الله – تعالى – كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من موعظة حسنة ترق لها القلوب ، وتخشع لها النفوس، وتصلح بها الأخلاق ومن شفاء لأمراض صدوركم، ومن هداية لكل إلى طريق الحق والخير ، ومن رحمة للمؤمنين ترفعهم إلى أعلى الدرجات ،وتكفر ما حدث منهم من سيئات ،وقال الآلوسى ما ملخصه : ” واستدل بالآية على أن القرآن يشفى من الأمراض البدنية كما يشفى من الأمراض القلبية ، ويقول الشيخ ابن عثيمين : لا شك أن الله تعالى جعل هذا القرآن شفاء لما في الصدور وشفاء لما في الأجسام أيضاً ، كما في قوله تعالى : ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الاسراء 82،، وفي الصحيحين واللفظ للبخاري : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ – رضى الله عنه – قَالَ انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَىِّ ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ ، فَأَتَوْهُمْ ، فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْقِى ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضِيِّفُونَا ، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً . فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ ، فَانْطَلَقَ يَمْشِى وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ ، قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِى صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ اقْسِمُوا . فَقَالَ الَّذِى رَقَى لاَ تَفْعَلُوا ، حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِى كَانَ ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا . فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرُوا لَهُ ، فَقَالَ « وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ – ثُمَّ قَالَ – قَدْ أَصَبْتُمُ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا » . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – .) ، فأثبت النبي -عليه الصلاة والسلام – بذلك أن الفاتحة رقية، فالقرآن كله خير وكله بركة، ولا شك أنه مؤثر، ولكن يجب أن نعرف أنه لا بد لتأثير القرآن من ثلاثة أمور : أولاً : إيمان القارئ بتأثيره، ، وثانياً : إيمان المقروء عليه بتأثيره، وثالثاً : أن يكون ما قرأ به مما تشهد الأدلة له بالتأثير. فإذا كان كذلك فإنه مؤثر بإذن الله، أما إذا نقص واحد من هذه الأمور الثلاثة مثل أن يقرأ على سبيل التجربة يقول: أجرب لأرى أينفع أم لا. فإن ذلك لا ينفع؛ لأن الواجب على المؤمن أن يؤمن بتأثيره. وكذلك أيضاً لو كان المريض عنده شك في ذلك وليس عنده إيمان بتأثير القرآن فإن ذلك لا ينفعه أيضاً؛ لأن المحل غير قابل حينئذ، وكذلك أيضاً لو قرأ آيات لم تشهد الأدلة لها بالتأثير، فهذا أيضاً قد لا يؤثر. وليس معنى ذلك أنه نقص في القرآن الكريم، ولكنه خطأ في قراءة ما ينبغي قراءته من الآيات أو السور.
أيها المسلمون
فللقرآن أوصاف مبثوثة فيه، تدل على فضله وعظمته ،ونفعه للناس؛ لو أخذوا بما فيه، ومن أوصافه أنه شفاء، وقد تكرر هذا الوصف في مواضع ثلاثة من كتاب الله تعالى؛ ولم يُحصر في الآيات الثلاث الشفاءُ في مجال معين، بل جاء نكرة في سياق الإثبات ،ليعم جميع أنواع الشفاء، وفي كل المجالات، إلا أنه في هذه الآية – التي بين أيدينا اليوم- ، ذُكر أنه شفاء لما في الصدور، والمقصود به أنه شفاء للقلوب، وأعصى الأمراض وأشدها فتكاً هي أمراض القلوب؛ ذلك أن القلوب هي مستودع العلوم والأفكار والأخلاق، وهي نوعان: قلوب عامرة بالإيمان مليئة بأنوار العلم والهدى؛ وهي القلوب الحية، وقلوب خالية من الإيمان، خاوية من معارف الوحي،؛ فهي قلوب ميتة، وموتها له سببان: الجهل والاستكبار، فأما الجهل فإنه يحول بين القلوب وبين الإيمان والنور، فإذا أزيل جهلها ربت بالإيمان، واستنارت بالقرآن، وهذا حال أغلب الكفار، قال الله تعالى فيهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:24]. ، وأما القلوب المستكبرة، فهي تعلم الحق ولا تريده قال الله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61]، وقال الله تعالى : {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5].، ولأجل أن الجهل هو أعظم مرض يحول بين القلوب وبين الإيمان، وهو ما يقع فيه أكثر الناس؛ إذ الاستكبار فيهم أقل من الجهل؛ فإن كلمة المفسرين تواردت في تفسير هذه الآيات على أن القرآن شفاء من الجهل. فهو شفاء من الجهل بالله تعالى وبآياته وصفاته، وشفاء من الجهل بالنبوات، وشفاء من الجهل بالمبدأ والمعاد؛ فإن هذه الحقائق الكبرى وإن دلت عليها العقول والفطر؛ فلا سبيل لترسيخها لتصير يقيناً لا تزعزعه الشكوك إلا بالوحي، وأيضاً لا طريق للعلم بتفاصيلها إلا بالوحي، فالقرآن مزيل للجهل بالحقائق الكبرى، فكان أعظم شفاء للقلوب من الشك والارتياب والجحود والإنكار. فكم شفى الله تعالى بالقرآن من جاهل فعلمه، ومن شاكٍ فأزال شكه وأبدله به يقيناً، ومن مسرف على نفسه بالعصيان؛ حركته آيات الترهيب والنار فقادته للتوبة، ومن متشائم يائس قنوط؛ فتح له القرآن أبواب الفأل والأمل، ومن متكلف في طلب البراهين على حقائق الوجود؛ وجد في القرآن بغيته بأجمل عرض، وأقوى حجة، وأبلغ بيان. وكم شفى الله تعالى بالقرآن قلوباً خوارة جبانة قرأت سير الأنبياء وشجاعتهم، وفضائل الجهاد والتضحية؛ فشفيت من خوفها، وغدت أعجوبة في الفداء والإقدام؟! وكم من نفوس قابضة شحيحة ممسكة؛ شفيت بالقرآن لما قرأت ما في الجود والإنفاق من عظيم الجزاء، فشفاها القرآن من شح نفسها، وبسط أيديها بالندى بعد قبضها؟! وكم من متخوض في الحرام، موغل في الربا، قرأ في القرآن أن الربا حرب لله ورسوله؛ فتاب منه؟! وكم من متيم بمن لا تحل له، يواصلها في الخفاء، قرأ في القرآن عفة يوسف عليه السلام؛ فتحركت العفة في قلبه، وشفي من علته، واكتفى بما أحل الله تعالى له؟! وكم من عاق لوالديه، حركته آيات حقوق الوالدين؛ فشفي من عقوقه؟! وكم قاطع رحم، قرأ في القرآن الوعيد على القطيعة؛ فعاد على رحمه بالصلة؟! وكم من ظالم لأهله وولده، بعيد عنهم؛ قربه القرآن منهم، وحببه فيهم؟! وكم من غضوب ركبه الشيطان، ذهب بالقرآن غضبه، وازدان بالحلم والهدوء؛ لأن الغضب من الشيطان، والشيطان يفر من القرآن؟! ، وكم من حامل هم، معالج كرب وغم، لا يغمض له جفن، قد ملَّ الدنيا والعيش فيها؛ سري عنه بالقرآن فكُشف به همه وغمه؟! وأمراض شتى من الشبهات والشهوات، شفي أصحابها بالقرآن. فلنستشف لأمراض قلوبنا بالقرآن. فمن أنواع هجر القرآن؛ هجر الِاسْتِشْفَاء بِهِ فِي جَمِيع أمراض الْقلب وأدوائه، فيطلب شِفَاء دائه من غَيره، فيكون دَاخلا فِي هذه الآية: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].، والرقية بالقرآن فيها أعظم الشفاء من العين والسحر ومس الجان، ومن سائر علل الأبدان؛ لأن الإخبار بأن القرآن شفاء جاء بصيغة العموم؛ ليشمل جميع العلل الحسية والمعنوية، والأسقام القلبية والبدنية. ،وقال طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ رحمه الله تعالى: “كَانَ يُقَالُ: أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا قُرِئَ عِنْدَهُ الْقُرْآنُ وَجَدَ لَهُ خِفَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى خَيْثَمَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَرَاكَ الْيَوْمَ صَالِحًا، قَالَ: إِنَّهُ قُرِئَ عِنْدِي الْقُرْآنُ”، رواه البيهقي. ، فلا شفاء للقلوب أعظم أثراً من شفاء القرآن، ولا مواعظ أبلغ من مواعظه، ولا تذكير أقوى من تذكيره، ومن اكتفى بغير القرآن ضل، ومن لم يوعظ بالقرآن فلا واعظ له، والمؤمن إذا قرأ القرآن زاد إيمانه بتلاوته، قال الله تعالى :{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، وإذا حفظ منها شيئاً فأتقنه استبشر وفرح، وتأثر بما فيه من الموعظة، وعمل بما أفاده من العلم، كحال الصحابة رضي الله عنهم حينما كان القرآن يتنزل ، قال تعالى : {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرونَ} [التوبة:124]، وذكر جندب بن عبد الله رضي الله عنه، أنهم تعلموا القرآن فازدادوا به إيماناً.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية: قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وانظر إلى ذلك التصوير الشجي لحال أهل الإيمان في ليلهم كيف يسهرون مع القرآن ، قال الله تعالى في شأنهم :(أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) آل عمران (113) ، وينوع الله تعالى ويعدد التوجيهات لتعميق العلاقة مع القرآن : فتارةً يحثنا صراحة على التدبر قال تعالى : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) النساء 82، وتارةً يحثنا على الإنصات إليه ، فقال تعالى : (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأعراف (204) ، وتارةً يأمرنا بالتفنن في الأداء الصوتي الذي يخلب الألباب لتقترب من معاني هذا القرآن فقال تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) المزمل (4) ، وتارةً يأمرنا بالتهيئة النفسية قبل قراءته بالاستعاذة من الشيطان لكي تصفو نفوسنا لاستقبال مضامينه ، فقال تعالى : (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) النحل (98) ، وتارةً يغرس في نفوسنا استبشاع البعد عن القرآن ، فقال تعالى : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) الفرقان (30)، وتارات أخرى ينبهنا على فضله، وتيسيره للذكر فهل من مدكر، قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (17) القمر ، وكل ذلك ليرسخ علاقتنا بالقرآن ، ولتلين به الجلود ، وتشفى الصدور ، وتخشع القلوب القاسية ، فالحديث عن قسوة القلب حديث ذو شجون، فإذا قسا القلب تجرأ الانسان على الميل بالشريعة مع هواه ، وإذا قسا القلب تهاون الانسان في الطاعات واستثقلها ، واذا قسا القلب عظمت الدنيا في عين المرء فأقبل عليها ،وأهمل حمل رسالة الاسلام للناس ، وإذا قسا القلب ضعفت الغيرة والحمية لدين الله ..والعلاج لما يحيك في هذه الصدور هو مداواتها بتدبر القرآن ، وحقا ما قال ربنا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، ففي الصدور شهوات تتشوف ، وفي الصدور شبهات تنبح ، وفي الصدور حجبٌ غليظة، وفي الصدور طبقات مطمورة من الران ،فإذا شفيت الصدور ،وجدت خفة نفس في الطاعات، وإذا شفيت الصدور انقادت للنصوص بكل سلاسة ،ونفرت من التأويل والتحريف ، وإذا شفيت الصدور تعلقت بالآخرة واستهانت بحطام الدنيا ، وإذا شفيت الصدور امتلأت بحمل هم إظهار الهدى ودين الحق على الدين كله ،فيجب على المسلم أن يتضرع إلى الله ويدعوه ويلح عليه أن يجعله من أهل القرآن، وأن يفتح عليه في فهم كتابه، والعمل به، وأن يجعله ممن قال عنهم (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) البقرة 121، فإن الإنسان لا يفتح عليه في العبودية بمجرد الجهود الشخصية، وإنما فتوحات العبودية من بركات اللجأ إلى الله، وكل أبواب الخير من العلم والديانة إنما هي من باب الاستعانة، كما يجب على المسلم أن يضع وردا يوميا للتدبر كما كان الصحابة لهم أوراد ، وأن لا يُغلب الانسان على ورده من التدبر مهما كانت الظروف، والقرآن كما قسمه ابن عباس أربع مراتب فقال :(التفسير على أربعة أوجه : تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب من كلامها ،وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله)
الدعاء