خطبة عن (الرُّشْدُ والرَّاشِدُونَ)
أبريل 8, 2025خطبة عن (المسلم وفقه الاستضعاف)
أبريل 10, 2025الخطبة الأولى (القرآن هُدًى لِلنَّاسِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (2) البقرة، وقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) البقرة: 185، وقال تعالى: (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) آل عمران:3،4، وقال تعالى: (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (1)، (2) النمل، وقال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) (2)، (3) لقمان.
إخوة الإسلام
لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم مرشدا للخير، ودالا على الفلاح، ومبينا سبل النجاة، ومن أهم أوصاف القرآن، وأكثرها ورودًا في آياته، أنه هدىً يهدي به الله البشرية، أفرادًا ودولاً وأممًا، يهديها لما يصلحها في كل شؤونها، قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) طه (123): (126)، فمن أعرض عن هدايته، ولم يتبع تعاليمه وإرشاداته، ضل وتاه وانتهى به المطاف إلى ما لا يرضيه في دنياه وأخراه، وأما من فتح قلبه، وتدبره، وأظهر قابلية واستعدادا للعمل به، (فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى). فالقرآن الكريم هو هداية للعالمين، أنزله الله ليُخْرِجَ الناسَ من الظلمات إلى النور، قال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النَّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة:257].
فأعظم وجوه الإعجاز في القرآن الكريم: أنه كتاب هداية للناس جميعا، عربهم وعجمهم، عالمهم وجاهلهم، يرِدُونه فيجدون فيه الهداية التي تخرجهم من الظلمات إلى النور، قال الله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة:1،2). وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:89)، فهذا القرآن يهدي الإنس والجن إلى طرق النجاة، ومناهج الاستقامة، وينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك، فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضلالة، ويرشدهم إلى أقوم حالة، ولما كانت الغاية من خلق الجن والانس هي عبادة الله تعالى، أنزل الله تعالى القرآن ليهديهم إلى طريق عبادته، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57).
وهداية القرآن جامعةٌ للمصالح العاجلة والآجلة، ومحققةٌ لمنافع الدنيا والآخرة: فأما ما يتعلق بالآخرة: فالقرآن عرّف العباد بربهم -سبحانه وتعالى-، ودلهم عليه، وبيّن لهم أفعاله، وأسماءه، وأوصافه، وكشف لهم ما يحتاجون إلى العلم به، من الغيب الذي يدفعهم للإيمان والعمل الصالح، وفصّل لهم بداية خلقهم ونهايته، وأعلمهم بمصيرهم بعد موتهم، وأوضح لهم طريق السعادة ليسلكوه، وسبل الشقاء ليجتنبوها، وما ترك شيئًا من دينهم إلا هداهم إليه، قال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16]. وأما ما يتعلق بالدنيا ومعاملة الناس بعضهم لبعضٍ: فقد هدى القرآن فيها إلى أحسن السبل وأيسرها وأنفعها، في السياسة، والاقتصاد، والأخلاق، والمطاعم، والمشارب، واللباس، والعلاقات الأسرية والاجتماعية والدولية، وذلك في أحكامٍ تفصيليةٍ لبعضها، وقواعد عامةٍ تنتظم جميعها، فلا يقع المهتدي بالقرآن في تخبطات البشر، ولا يُجرّ إلى أهوائهم، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]، وقد تحقق هذا حينما اهتدى العرب بهداه، فخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن التخلف إلى قمة الحضارة والمدنية، ومن الذل والتبعية إلى السيادة والعالمية، ثم أوصلوا هدايته إلى العالم من حولهم، بأمانة وتضحية وإخلاص، فإذا بالعالم يكتسي بحلة العزة والرفعة والبهاء والجمال، وأثبت واقع المسلمين عبر الزمن أنهم أصبحوا بتمسكهم بالقرآن أرقى الأمم، وبتخلفهم عنه وأخذهم بما عند الأمم من ضلال أخس الأمم، قال تعالى: ﴿إنّ هذا القرآن يهدي للّتي هي أقوم ويبشّر المؤمنين الّذين يعملون الصّالحات أنّ لهم أجرًا كبيرًا﴾ [الإسراء: 9].
أيها المسلمون
وأكثر ما جاء وصف القرآن بالهداية، خُص به المؤمنون أو المتقون أو المحسنون؛ لأنهم قبلوا هداه، وعملوا بمقتضاه، وإلا فالأصل أن القرآن هدىً للناس جميعًا، ولكنّ الكفار والمنافقين لمّا لم يرفعوا به رأسًا، واستبدلوا به غيره في الاهتداء، لم ينتفعوا باطلاعهم عليه، ولا بقراءتهم لآياته، قال تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت:44]، وقال سبحانه: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:23]. ومن هذا يتبين لنا أن الوسيلة الوحيدة لهداية القرآن العظيم تحصل بالتقوى، والإيمان الخالص، وما يتفرع من هذه الخصال الحميدة من خصال موازية لها، أو متفرعة عنها، كالإحسان، والإسلام، فالمتقون والمؤمنون هم الذين ينتفعون بما فيه من أوامر ونواهٍ، أما من لم يتصف بهذه الخصال الخيرة والنبيلة فلا تحصل له الهداية القرآنية، قال تعالى: ﴿والّذين اهتدوا زادهم هدًى وآتاهم تقواهم﴾ [محمد: 17].
ولقد هدى الله تعالى بالقرآن بشرًا كثيرًا، في القديم والحديث، ولا زلنا نسمع كل يومٍ قصص المهتدين بالقرآن، ممن سمعوه، أو وقع في أيديهم فقرؤوه، ومنهم من قصد قراءته لنقده، والطعن فيه، وصرف الناس عنه، فكان من المهتدين به، وللمستشرقين والمثقفين الغربيين أعاجيب في ذلك، وعددٌ من أئمة الشرك في الجاهلية اهتدوا بالقرآن فصاروا من أنصار الإسلام، ومن أعلام الصحابة، ومن كبار هذه الأمة.
ولم يكن الاهتداء بالقرآن خاصًّا بالإنس، وقد أنزل القرآن على واحدٍ منهم -صلى الله عليه وسلم-، وإنما اهتدى به الجن أيضًا؛ وذلك أنهم تسامعوا بنزول القرآن، فطلبوا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حتى أدركوه ببطن نخلٍ، بين مكة والطائف، وهو يقرأ سورة الرحمن، ولم يشعر بحضورهم، فأنصتوا لقراءته، وتأثروا وآمنوا، ودعوا قومهم إلى الإيمان، قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (29): (32) الأحقاف.
فالقرآن يهدي الجادين المجدين، الذين أقبلوا عليه، فتدارسوه، وتفهموه، ووطدوا علاقتهم به، وعقدوا العزم على الأخذ به في سلوكهم وحياتهم الخاصة، وفي بيوتهم وخلواتهم، ومع أنفسهم وأهلهم وأقاربهم، وفي حياتهم العامة: في الشارع وفي السوق، في الإدارة والمدرسة والمعهد، في المصنع والمعمل والمتجر، وحيثما كانوا، فهو يأخذ بيدهم: فيظهر لهم الخير خيرا، فيسيرون إليه، والشر شرا فيجتنبونه ويبتعدون عنه، وهكذا يزدادون من الأعمال الصالحة النافعة، حتى يصلوا إلى رضى الله، وإلى ما تطمئن إليه نفوسهم، فيفوزون بسعادة الدنيا والأخرى.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (القرآن هُدًى لِلنَّاسِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والقرآن فيه هداية وشفاء للأرواح؛ فهو يبعد عنها الحيرة، ويحررها من قيود طغيان المادة، وهو شفاء للأجسام لما بين الروح والجسم من ترابط واتصال من جهة، ولما أودع الله فيه من أسرار تقصر عن إدراكها عقول البشر وأفهامهم.
والقرآن كتاب هداية: فهو حارب التقليد، ويدعو إلى النظر والتأمل في الكون، وهو الكتاب الذي فك العقول من عقالها، وأطلق النفوس من إسارها، وأنحى على التقليد والمقلدين بالذم والتوبيخ، قال الله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل اللّه قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون﴾ [البقرة:170]. وهو الكتاب الذي وجَّه العقول والأنظار إلى النظر في الأنفس، وما فيها من عجائب وأسرار، وغرائز واستعدادات، قال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ الذاريات (20)، (21).
أيها المسلمون
فلنهتدِ بالقرآن، ونحن نستمع إلى ترتيله، ولنتدبر ما نقرأ وما نسمع، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص:29].
واعلموا أن للقرآن هدايتين: هداية عامة لكل الناس، وهداية خاصة بالمتفتحين المتطلعين المستعدين، وعلى المؤمن بعد أن يظهر استعدادا وقابلية، أن يتلبس بما أمر به من طاعة وعبادة وإخلاص، ويتوجه إلى الله سبحانه سائلا منه أن يوصله إلى مراده، ويحقق له مبتغاه، فالهدى الخاص يعطيه الله سبحانه لمن تطلع في شوق، فسعى وبذل الجهد للحصول عليه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يونس:(9)، وقال تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) التغابن:11،
فالقرآن هدى يدل ويوضح، ويدعو وينصح، ويأخذ بيد من يظهر استعدادا وقابلية للعمل بنصائحه وإرشاداته وإتباع دلالاته وبياناته، وهو رحمة تطمئن بتعاليمه النفوس، ويزول ما بها من ضيق وقنوط وقلق ويأس، وتتفتح أمامها مجالات الخير رحبة واسعة.
الدعاء