خطبة عن التوكل على الله والأخذ بالأسباب وحديث (اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ)
يناير 18, 2020خطبة عن أحكام النائم والصبي والمجنون وحديث (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ)
يناير 25, 2020الخطبة الأولى (الله تعالى أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى وَهو أَهْلٌ أَنْ يغْفِرَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام الترمذي بسند حسنه ،وحسنه الألباني : (عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) قَالَ : « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى ،فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إِلَهًا ، فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ ».
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذا الحديث القدسي ، والذي يرشدنا إلى أن نتقي الله تعالى، فنعمل بطاعته ، ونجتنب معاصيه ، وفي هذا الحديث القدسي المذكور: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى) ، فهو سبحانه وتعالى أهل لأن يتقى ، لأنه عظيم ، فهو جامع لجميع صفات العظمة والكبرياء والمجد والبهاء ، وهو الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، فعظمة كل شيء هي لا شيء في جانب عظمة العلي العظيم، والله تعالى عظيم، فله كل وصف ومعنى يوجب التعظيم ،فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه كما ينبغي له ،ولا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه ،وفوق ما يثني عليه عباده، ولا يستحق أحد من الخلق أن يعظم كما يعظم الله ،فيستحق جل جلاله من عباده أن يعظموه بقلوبهم، وألسنتهم، وجوارحهم ،وذلك ببذل الجهد في معرفته، ومحبته، والذل له، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه ، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته، (أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى) ،يتقى حق تقاته ،فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، (أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى)، ففي مسند أحمد وغيره : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئاً مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ».،فهو سبحانه وتعالى وحده المستحق للتعظيم والتأله والخضوع والذل. فهذا حق له جل وعلا لا ينازعه فيه أحد، فهو الذي عنت له الوجوه، وخشعت له الأصوات، ووجلت له القلوب، وذلت له الرقاب، وخضعت له راغمة أو راضية العباد؛ فلله التبجيل والعظمة والكبرياء، له ما في السماوات وما في الأرض، وهو الذي وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم، فالله هو الذي يستحق أن يتقيه ويعظمه خلقه ،ويهابونه ويتقونه، فالله ذو العظمة والجلال في ملكه وسلطانه، فإن كان العباد يعظم بعضهم بعضا لصفة من الصفات؛ فالله تعالى يعظم في كل الأحوال، فهو الذي جاوز قدره حدود استيعاب العقول، حتى لا تتصور الإحاطة بكنهه وحقيقته وكيفيته؛ فينبغي لمن عرف عظمة الله أت يتقيه ، وألا يتلفظ بلفظ لا يحبه الله، ولا يأتي بفعل لا يرضاه الله، فالله عظيم في ذاته، عظيم في علمه، عظيم في أسمائه، عظيم في سمعه وبصره وصفاته، عظيم في قدرته وقوته وعلمه، عظيم في انتصاره وانتقامه ،(أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى) : فالله سبحانه وتعالى أهل لأن يتقى بحفظ النفس مما يؤثم، وترك المحرم، وبالاستبراء للدين والعرض ، وبترك المشتبهات، والله تعالى أهل لأن يستر عيوب وذنوب التائبين متى شاء سبحانه وتعالى، قال الزجاج في معاني القرآن: “هو أهل أن يُتقَى عقابه، وأهل أن يُعمل بما يؤدي إلى مغفرته”
أيها المسلمون
ثم يقول سبحانه في الحديث القدسي :(فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إِلَهًا فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ) ، فالله سبحانه وتعالى يغفر للمتقين ، ومن يلجأ إليه ، فهو صاحب التقوى ، وأهل المغفرة، وقَالَ الإمَامُ القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: في بعض التفسير: هو أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبار، وأهل المغفرة أيضا للذنوب الصغار، باجتناب الذنوب الكبار، فلا يكبُر ذنبٌ مع سعة رحمة اللهِ، إلا الشرك، قَالَ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) النساء 48، والتقوى هي وصية الله تعالى لجميع عباده المؤمنين ، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } (النساء: 131). وأصل التقوى أن يجعل العبد لنفسه وقاية من غضب الله تعالى ،باتباع أوامره ،اجتناب نواهيه، ومراقبته في السر والعلانية، والخوف من ذنوبه، والتوبة منها على الدوام؛ فهو سبحانه أهل أن يُخشى ويُهاب، ويُجل ويُعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه عن حب ورضا ، والناس يتفاوتون في التقوى كتفاوتهم في القدرات والأخلاف ،فمنهم من يقتصر على فعل المندوبات ويجتنب المحرمات والمكروهات ، ومنهم من يترك الجائزات خوفاً من الوقوع في المحرمات، ومنهم من يزهد في الدنيا فيقتصر على ما يسد الرمق ويستر العورات ، ومنهم من يترك بعض الحلال خشية أن يقع في الحرام ، فقد روى البخاري (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ كَانَ لأَبِى بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ ، وَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ تَدْرِى مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ ، إِلاَّ أَنِّى خَدَعْتُهُ ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ ، فَهَذَا الَّذِى أَكَلْتَ مِنْهُ . فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ ). وقال أبو بكر الصديق – رضي الله عنه -: «كنا ندع سبعين بابا من الحلال، مخافة أن نقع في باب الحرام» ، وقال عمر – رضي الله عنه -: «كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام» ، وأخرج مالك في الموطأ : (عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبَنًا فَأَعْجَبَهُ فَسَأَلَ الَّذِى سَقَاهُ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَاءٍ – قَدْ سَمَّاهُ – فَإِذَا نَعَمٌ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ وَهُمْ يَسْقُونَ فَحَلَبُوا لِي مِنْ أَلْبَانِهَا فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي فَهُوَ هَذَا. فَأَدْخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدَهُ فَاسْتَقَاءَهُ )
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الله تعالى أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى وَهو أَهْلٌ أَنْ يغْفِرَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقد أمرنا الله تعالى بالتقوى في آيات كثيرة، ومنها قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر: 18).وقوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } (الفتح: 26). ومعنى قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} أي :أوجبها عليهم وعمل مفهومها في قلوبهم ،فالتزموها التزاماً تاماً بقدر طاقتهم البشرية، فأهل التقوى هم أهل الله وخاصته، يتولاهم بعنايته، ويكلؤهم بحفظه، ورعايته، ويغفر لهم ذنوبهم، ويتغمدهم بواسع رحمته، والناس متفاوتون في التقوى ،وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13). ولا شك أن نبي الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو أتقى الخلق ، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري “أما إِنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ”. وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم أتقي الناس من بعده ،فهم كالنجوم يستضاء بهم في أمور الدين والدنيا.
الدعاء