خطبة حول معنى قوله تعالى ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ )
يوليو 19, 2025الخطبة الأولى (الله هو الحفيظ الحافظ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ هود:57، وقال تعالى: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ يوسف:64،
إخوة الإسلام
الحفيظ والحافظ: تعني: الذي يحفظ على الخلق أعمالهم، ويحصي عليهم أقوالهم، ويعلم نياتهم وما تكن صدورهم، وهو الذي يحفظ أولياءه من الذنوب، ويحميهم من الشياطين، والحفيظ والحافظ: هو من يحفظ السموات والأرض وما فيهما، فلا تزول ولا تندثر, قال تعالى : ﴿وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ البقرة:255، وقال تعالى: ﴿وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ﴾ الصافات:7، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ فاطر:41، والحفيظ والحافظ: هو – سبحانه – من يحفظ عبده من المهالك، ومن مصارع السوء، قال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ الرعد:11: أَيْ: بأمره سبحانه، ممَّا لم يُقدَّر، فإذا جاء القدر خلَّوا بينه وبينه. وقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْهُمْ شَيْءٌ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إِلَّا قَالَ وَرَاءَكَ إِلَّا شَيْءٌ يَأْذَنُ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ. وقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِكُمْ مَلَائِكَةً يَذُبُّونَ عَنْكُمْ في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الْجِنُّ.
وحفظ الله لخلقه نوعان: عام، وخاص: أما الحفظ العام: فحفظه لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيتها، ويحفظ بنيتها، وتمشي إلى هدايته وإلى مصالحها بإرشاده وهدايته العامة قال تعالى : ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ طه:50، والحفظ الخاص: حفظه الخاص لأوليائه، فيحفظهم عما يضر إيمانهم من الشبه والفتن والشهوات، فيعافيهم منها، ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية، ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس، فينصرهم عليهم ويدفع عنهم كيدهم، قال الله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ الحج:38، وفي سنن الترمذي: (احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْك، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَك، وَإِذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ): أي احفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم تعدِّيها، يحفظك في نفسك، ودينك، ومالك، وولدك، وفي جميع ما آتاك الله من فضله.
أيها المسلمون
ومن آثار الإيمان باسم الله “الحفيظ” و ”الحافظ”: أنَّ الحافظ هو الله وحده لا شريك له، وأن المحفوظ هو من حفظه الله، وأن الله تعالى هو من يحفظ الانسان من الأمراض والمهالك والأعداء، وليست التمائم أو الحفاظات، أو الكتب والحجب، أو الخرزات، ولا غيرها، ففي مسند أحمد: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلاَ وَدَعَ اللَّهُ لَهُ». وفيه: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَبْصَرَ عَلَى عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً أُرَاهُ قَالَ مِنْ صُفْرٍ فَقَالَ «وَيْحَكَ مَا هَذِهِ». قَالَ مِنَ الْوَاهِنَةِ قَالَ «أَمَا إِنَّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْناً انْبِذْهَا عَنْكَ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِىَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَداً»، ونؤمن أن الله تعالى هو الحافظ لكتابه الكريم، فقد تكفل الله بحفظه من التَّحريف والتغيير والتبديل، على مرِّ العصور والدهور، قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، ونؤمن أن الله تعالى يحفظ من حفظ حدوده، واجتنب محارمه، قال تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ) (النساء:34)، وجاء في سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ «يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ».
وعلى المؤمن أن يحفظ الواجبات: كالصلاة، قال تعالى: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى) (البقرة:238). وقال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (المؤمنون:9، والمعارج:34). فمن حافظ على الصلوات، وحفظ أركانها، حفظه الله من نقمته وعذابه؛ وكانت له نجاة يوم القيامة. وفي مسند أحمد: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاَةَ يَوْماً فَقَالَ «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُوراً وَبُرْهَاناً وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلاَ بُرْهَانٌ وَلاَ نَجَاةٌ وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَىِّ بْنِ خَلَفٍ»، وروى الطبراني من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا: (إذا حافظ العبد على صلاته فأقام وضوءها وركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت له: حفظك الله كما حفظتني، وصعد بها إلى السماء ولها نور تنتهي إلى الله عز وجل فتشفع لصاحبها). وأما المحافظة على الوضوء؛ فقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يُحافِظُ على الوضوء إلا مؤمن) (رواه أحمد وابن ماجه). ومما أمر الله بحفظه: السّمع والبصر والفؤاد، قال سبحانه: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36). فاحفظْ سمعك، فلا تسمع إلا ما يرضيه، واحفظْ بصرك فلا تنظر إلا إلى ما يرضيه، واحفظ قلبك وعقلك من أنْ يتعلّقا بما يغضبه ويسخطه، وينْشغلا بغيره. ومما أمر سبحانه وتعالى بحفظه الفروج، قال سبحانه: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور:30). ومدح المؤمنين بذلك فقال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (المؤمنون:5-6). وفي صحيح البخاري: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»، ومما أمر الله بحفظه الأيمان، فقال: (وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ) (المائدة:89)، لأنّ حفظ اليمين؛ يدل على إيمان المرء وورعه، فكثيرٌ من الناس يتساهل في الحلف والقسم، وقد تلزمه الكفارة وهولا يدري، أو يعجز عنها، فيقع في الإثم لتضييعه وعدم حفظه لأيمانه،
وكلما كان وفاء العبد بحفظ حدود الله وشرائعه أعظـم، كان حفـظ الله له كذلك، قال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة: 40). وفي سنن الترمذي: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ ابْنَ آدَمَ ارْكَعْ لِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَكْفِكَ آخِرَهُ »، ومما يلزم المؤمن حفظه أيضًا ما جاء في هذا الحديث؛ فقد روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حقَّ الحياء)، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحي والحمد لله، قال: (ليس ذاك؛ ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبِلى، ومَنْ أرادَ الآخرةَ تركَ زينةَ الدُّنيا، فمَن فعل ذلك استحيا من الله حقَّ الحياء). ونؤمن أن الله تعالى يحفظ أعْمال عباده؛ فلا يضيع شيءٌ منها؛ ولا يخفى عليه، صغيراً كان أو كبيرا، ويوافيهم بها يوم الحساب إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر، ولا يَنسى الله منها شيئاً؛ قال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً) (النبأ:29). وقد وكَّل الله بذلك حفظة كراماً من الملائكة، قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار: 10 -12). وقال تعالى: (إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) (الطارق:4)، وقال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف: 49).
ومن حفظ الله -تعالى- لعبده المؤمن: تثبيته له في الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم:27] وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف:13]. ومن حفظ الله -تعالى- لعبده المؤمن في دينه: حفظه له من الشبهات والشهوات، وتبصيره بالحق والباطل، ولذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يدعو به صلاة الليل: “اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم”(رواه مسلم). ومن حفظ الشهوات ما يصرفه -تعالى- عن عبده المؤمن من الوقوع في الشهوات المحرمة، قال -تعالى- عن يوسف عليه السلام: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24]، ومن صور حفظ الله للعبد: حفظ عقله وصحته وقوته، وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة سنة وهو ممتَّع بعقله وقوته، فوثب يوماً من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة، فعوتب على ذلك فقال: “هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر”.
ومن صور حفظ الله للعبد: حفظه لماله وأولاده وإصلاح ذريته؛ كما في قوله -تعالى-: (أَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف:82]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبَوَيْهِمَا”، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَعِتْرَتَهُ وَعَشِيرَتَهُ وَأَهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ”، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنِّي لَأُصَلِّي فَأَذْكُرُ وَلَدِي فَأَزِيدُ فِي صَلَاتِي”.
ومن صور حفظ الله لعبده: حفظه له من شرور الجن وشر كل ذي شر، قَالَ مُجَاهِدٌ: “مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ، يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْهُمْ شَيْءٌ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إِلَّا قَالَ: وَرَاءَكَ! إِلَّا شَيْءٌ يَأْذَنُ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ”. وقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: “لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَكَّلَ بِكُمْ مَلَائِكَةً يَذُبُّونَ عَنْكُمْ فِي مَطْعَمِكُمْ وَمَشْرَبِكُمْ وَعَوْرَاتِكُمْ؛ لَتَخَطَّفَكُمُ الْجِنُّ”. ومن صور حفظ الله لعبده: أن يحفظه عند موته، قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (27) إبراهيم وقال أحد السلف: إذا احتضر المؤمن يُقال لملك الموت: شمَّ رأسَه فيقول: أجد في رأسه القرآن، فيُقال: شمَّ جوفَه، فيقول: أجد في جوفه الصيام، فيُقال: حفِظَ نفسَه فحفظَه الله عز وجل؛ ويجوز إطلاق هذا الاسم على الخَلق، فقد جاء ذلك في قوله تعالى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (ق: 32). ويوسف: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55).
أيها المسلمون
وهناك صور متعددة لحفظ الله تعالى لعباده المؤمنين: فالحفيظ حفظ إبراهيم عليه السلام من النار ﴿ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء:69،70]، والحفيظ: حفظ يونس عليه السلام في بطن الحوت ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 88]، والحفيظ: حفظ موسى عليه السلام وهو طفل رضيع ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 7]، وحفظه وقومه من فرعون وجيشه الجرار ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 61، 62]، والحفيظ: حفظ يوسف عليه السلام في غيابةِ الجُبِّ وفي السجن ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]، والحفيظ: حفظ هاجر ورضيعها إسماعيل عليه السلام بوادٍ غير ذي زرع ( فإن الله لن يُضيِّعَنا..) ، والحفيظ: حفظ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم من كيد ومكر مشركي قريش ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]، فخرج من بينهم وهم متربصون به على باب داره ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9]، وحفظه وصاحبه إذ هما في الغار ﴿ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، وحفظه في الطريق إلى المدينة، وفي كل مراحل دعوته صلى الله عليه وسلم ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36]، ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الله هو الحفيظ الحافظ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وهناك أسباب لحفظ الله لعبده المؤمن: ومنها: الدعاء؛ فإذا ضاقت عليك الأرض وكثرت المخاطر؛ فارفع يديك إلى السماء وقل: يا حفيظ احفظني بحفظك ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف:64]. فعلى المسلم أن يدعو الله تعالى أن يحفظه من كل سوء، ففي مسند أحمد: (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي»، وفي المستدرك للحاكم: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: اللهم احفظني بالإسلام قائما واحفظني بالإسلام قاعدا واحفظني بالإسلام راقدا ولا تشمت بي عدوا حاسدا واللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك)، وفي سنن الترمذي: (أن عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضى الله عنه يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَيَضُرُّهُ شَيْءٌ ». وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَصَّ الْحَدِيثَ فَقَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ . وَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « صَدَقَكَ وَهْوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ »، وفي الصحيحين واللفظ لمسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ وَلْيُسَمِّ اللَّهَ فَإِنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ وَلْيَقُلْ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبِّى بِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ». وفي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئاً حَفِظَهُ». وفي سنن البيهقي: (عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى الْغَزْوِ فَشَيَّعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا أَرَادَ فِرَاقَنَا قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ مَعِي مَا أُعْطِيكُمَاهُ وَلَكِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :«إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتُوْدِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ وَأَنَا أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دَينَكُمَا وَأَمَانَاتِكُمَا وَخَواتِيمَ أَعْمَالِكُمَا ». ومن أسباب حفظ الله للعبد: التحصن بالأذكار المشروعة التي وردت في الكتاب والسنة، قال ابن القيم -رحمه الله-: “أذكار الصباح والمساء بمثابة الدرع، كلما زادت سماكته لم يتأثر صاحبه، بل تصل قوة الدرع أن يعود السهم فيصيب من أطلقه”،
وفي الحديث: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “من قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ” (صحيح أبي داود)، وعن أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، فقال: “أما إنك لو قلت حين تمسي: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك إن شاء الله -تعالى-” (رواه مسلم).
الدعاء