خطبة عن (الفرق بين الفلاح والنجاح)
يونيو 29, 2025الخطبة الأولى (اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (21) يوسف.
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع مائدة القرآن الكريم، مع آية أو بعض آية، نتلوها، ونتدبرها، ونفهم معانيها، ونتعرف على مراميها، ونرتوي من نبعها الصافي، ونرتشف من رحيقها المختوم، مع قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاس لَا يَعْلَمُونَ﴾ (21) يوسف.
وإن المتتبع لمسار التاريخ، ومسيرة الإنسان، لوجدنا أن هذه الحقيقة لا تشذ أبداً، ولا تتخلف مطلقاً، ف(اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، والعباد -بمن فيهم الطواغيت المتجبرون- هم أضعف من الذباب، قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (73) الحج، وهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله؛ وليسوا بنافعين أحداً إلا بأمر الله.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاس لَا يَعْلَمُونَ﴾، وهذه الحقيقة، حين تستقر في ضمير المؤمن، تطلق تصوره لمشيئة الله وفعله، من كل قيد يَرِدُ عليه من مألوف الحس، أو مألوف العقل، أو مألوف الخيال، فقدرة الله وراء كل ما يخطر للبشر على أي حال، والقيود التي تَرِدُ على تصور البشر بحكم تكوينهم المحدود، تجعلهم أسرى لما يألفون في تقدير ما يتوقعون من تغيير وتبديل، فيما وراء اللحظة الحاضرة، والواقع المحدود، وهذه الحقيقة تطلق حسهم من هذا الإسار، فيتوقعون من قدرة الله كل شيء بلا حدود، وبلا قيود.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾: لها هنا (في قصة يوسف) معنى خاص في هذا السّياق، وهو أن النّاس يدبرون ويمكرون، ويتآمرون ويفعلون كلّ ما يبدو لهم، والأمر في الأول وفي النهاية في يد الله، وهو جلّ وتقدّس غالب كلّ مكر، وكل ظلم، وكل استبداد، وكل قهر، حتّى إنك أيها الظالم لا تدري ما في أمر الله، وربما كان في أمره أن هذا المظلوم الّذي أنت قاهره، سيأتي اليوم الّذي يكون فيه قاهراً عليك، فافعلوا ما شئتم أيها الظالمون، ولكن تأكدّوا أنّ تدابير القدر ليس في أيديكم منها شيء، وإنّما هي في يد واحد، في يد الغالب على أمره، وإن كان أكثر النّاس لا يعلمون، ولو علمت أيها الإنسان المتعالي، أنّه لا تسقط ورقة إلّا وهو يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس، إلا في كتاب مبين، لو علمت ذلك لعرفت حجمك، ولو عرفت حجمك، لسهرت ليلك تدعوه تضرّعاً ورجاء وخيفة.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ أي: على كلّ أمر يريده ويقدره، فلا يغلب على شيء منه، بل يقع كما أراد، فكلّ ما وقع ليوسف من إخوته، ومن مسترقّيه وبائعيه، ومن توصية من اشتراه لامرأته بإكرام مثواه، ومما وقع له مع هذه المرأة، وفي السجن، قد كان من أسباب ما أراده الله تعالى له من تمكينه في الأرض، وإن كان ظاهراً على خلاف ذلك، وكذلك، فالله غالب على أمر يوسف، فهو يدبره ويعلمه الخير، ولا يكله إلى تدبير نفسه، واتباع هواه.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾: فلا يستعصي عليه أمر، ولا يمانعه شيء، وهو القائل: ﴿إنّما أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:82]. والله تعالى متولّ على يوسف، لا يكله إلى غيره، وقد أرادوا هلاكه، وأراد الله تعالى سلامته ونجاته، فكان ما أراده سبحانه، فلا راد لقضائه، ولا غالب لمشيئته، ولمّا كان هذا الأمر، وهو غلبة الله على أمره، ووقوع ما قدّره سبحانه، مما يغفل عنه النّاس، أو يعقلون ضد مقتضاه، جاء الاستدراك المبيّن لحال النّاس المخالف: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (21) يوسف.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾: فينبغي على المؤمنين أن يتوكلوا على العزيز الحكيم، الذي لا يُغالب، ولا يُمانع، والذي يعز أولياءه بطاعته، ويذل أعداءه بمعصيته، وأن يثقوا بوعده، ويوقنوا بأنه تعالى- غالب على أمره، ومِن أمره -عز وجل- قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:32-33)، وقوله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف:8)، وقوله تعالى: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128).
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾: فعلى المؤمنين أن يدوروا مع أمر الله -تعالى- حيث دار، ولا يبالوا على ما أصبحوا أو أمسوا، فإنه أمر ربهم؛ فيكونوا راضين به وعنه، وأن يتعبدوا العبادة الواجبة عليهم، سواء في وقت السراء أو الضراء، وأن يدعوا إلى ربهم في جميع الحالات، بفقه وحلم، فهو سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاس لَا يَعْلَمُونَ﴾: لا يعلمون أنّه تعالى غالب على أمره، بل يأخذون بظواهر الأمور، كما استدلّ إخوة يوسف بإبعاده، على أن يخلو لهم وجه أبيهم، ويكونوا من بعده قوماً صالحين، ويقابل الأكثر في هذا المقام يعقوب (عليه السلام)، فقد كان يعلم أنّ الله غالب على أمره، وأقواله صريحة في الدلالة على علمه ما تقدم منها وما تأخر في هذه القصّة، ولكن علمه كلي إجمالي، لا يحيط بتفصيل الجزئيات المخبوءة في مطاوي الأقدار.
أيها المسلمون
وقد ربى النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه على هذه العظمة الإيمانية ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ في الشعور بتدبير الله للكون، ومن أشهر المواقف، ما رواه الامام أحمد والبزار: (عن عُبيد بن رِفاعة الزرقي عن أبيه -رضي الله عنه- قال: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِىَ عَلَى رَبِّى». فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفاً فَقَالَ «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلاَ هَادِىَ لِمَا أَضْلَلْتَ وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِى لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ اللَّهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ اللَّهُمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رَجْزَكَ وَعَذَابَكَ اللَّهُمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ». إنها رحلة اليقين العظيمة، في ثنايا القانون الثابت، الذي لا يتغير: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾: فلا رادَّ لقضاء الله، ولا منازع له فيما يريد، ولا مانع له، فهو العزيز سبحانه، والأمر كله بيديه، وهكذا هي أحداث حياتك، لو تأملتها لوجدت أن اختيارات الله لك خيرٌ، من حيث لا تدري، وإن ظننت أنها شَرٌّ، ولكن أمر الله غالب فيك، ومشيئته نافذة عليك، فلو اجتمع عليك الماكرون، ولو أحاط بك الكائدون، فإن حفظ الله وعنايته أغلب، وفي سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ «يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ»، فلو أنزلت هذه الآية، وذلك الحديث على قلبك، واستقرت فيه هذه الحقيقة، لوثقت في أقدار الله لك، ولفرحت به، ورضيت عن ربك وخالقك.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (21) يوسف. فتأمل كيف حوت هذه الآية معاني جامعة في “سورة يوسف” فكان أول ما قال يعقوب لولده يوسف عليهما السلام: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، فلم يقصص يوسف عليهم؛ فهو الولد المعلَّم الطائع، وهم ما حضروا قطعًا مجلس يوسف وأبيه، ولكن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، كادوا له، ولم يغنِ حذر من قدر، فوقع ما كان يحذر يعقوب -عليه السلام،
وتأمل كيف أرادوا بفعلتهم أن يخلو لهم وجه أبيهم، وأن ينفردوا بمحبته، وينزعوا حب يوسف من قلبه، ولكن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، فظل يعقوب يحبه، ويرجف قلبه بمحبته، حتى بعد فقد أخيه، فما قال إلا: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84]، فتأمل كيف كان يوسف في سويداء قلبه، وقال: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]، فلم ينسه، وتطاولت الأزمان والسنون: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف أرادوا أن يجعلوه في قاع الجب، فرفعه الله إلى قمة المُلك، وقال المَلِك له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54] لأنه سبحانه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف أرادوا بيعه بيع العبيد، فاشتراه من مصر عزيزها، ليحيا فيها حياة الملوك، وأبناء الملوك، بل ملكها هو بعد ذلك، وأرادوا بذلك إهانته، فقال الذي اشتراه من مصر لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]؛ وذلك لتعلم أن: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
وتأمل كيف قالوا: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9]، أي تائبين، فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب، وأصروا عليه، حتى أقروا به بين يدي يوسف -عليه السلام- بعد سنين، وقالوا لأبيهم: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وتأمل كيف كادت به امرأة العزيز، وغلقت الأبواب، وطلبت وقت غيبة العزيز؛ ليبعد ذلك عن علمه، وعلم الناس، ولكن: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، فكشف الأمر، وهتك الستر: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25]، وشاع الأمر حتى {قَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:30]؛ وذلك لتعلم أن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف ابتدرته بالكلام بين يدي العزيز؛ لتغلبه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}؛ فأظهر الله براءته، بشهادة شاهد من أهلها، حتى استقر الحق في نفس العزيز، فقال لها: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29]، وما ذلك إلا لأنه سبحانه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف كادت به هي والنسوة، وتعالت صيحتها، وهي تقول: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]، فأرادت إدخال الوحشة عليه بالسجن؛ فآنس الله وحشته بذكره لربه، وإحسانه للخلق {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وقالت: {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} فغلب أمر الله، وقال المَلِك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54]، فأرادت إذلاله -عليه السلام؛ فأعزه الله، وجعل أقوات الخلق بين يديه! {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف دبر يوسف -عليه السلام- أن يخلص من السجن، فطلب من ساقي الخمر أن يذكر شأنه للمَلِك، فغلب أمر الله تعالى؛ إذ أراد أن يمكث يوسف في السجن بضع سنين، فأنسى الشيطانُ الساقي ذكر قصة يوسف للملك؛ فلبث يوسف في السجن بضع سنين {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف دبر يوسف شأن نفسه ليخرج من السجن في أول الأمر، ولكن أراد الله ألا يكون لأحد عليه منة، وأن يعلي قدره جزاء إحسانه؛ فأرى اللهُ الملكَ الرؤيا ليخرج يوسف مطلوبًا لا طالبًا، مرغوبًا لا راغبًا، ويقول الملك: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54]، حقا {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف حاول الساقي إخفاء أنها رؤيا الملك، فقال: {أَفْتِنَا} [يوسف:46]، ولم يقل: أفتِ الملك، وقال: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} [يوسف:46]، ولم يقل: إلى الملك، حتى بادي الأمر قال: {فَأَرْسِلُونِ}، ولم يذكر جهة إرساله، فتكتم قبل خروجه، وحين جاء يوسف، ولكن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، ففهم الملك، وكشف الله الأمر له، وما نفع هذا الرجل ما فعل، وكان حقه أن يحسن لمن أحسن إليه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف أراد يعقوب -عليه السلام- حفظ أولاده أن يصيبهم أذى فقال: {لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67]، وهو يعلم أنه لا يغني عنهم من الله شيئًا، وقد فعلوا {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} [يوسف:68]، ولكن غلب أمر الله ففقدوا واحدًا منهم {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف صنع الإخوة واستعدوا لبذل واحد منهم مكان أخيهم، ولكن غلب أمر الله، وما كان ليوسف أن يأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله -وقد شاء، فغلب أمر الله {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل بعد هذا كله، كيف كان تدبير الله ليوسف، أن ينقله من كنف بيت النبوة، إلى بلاط الملك والسياسة؛ ليكون هذا هو محل دعوته، ومكان عمله {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل حفظ الله لأهل مصر، وكيف أخرج لهم من الشام يوسف -عليه السلام-؛ ليدبر لهم شأنهم في السنين العجاف؛ ولتبقى مصر سلة الغلال، وخزانة الدنيا، تأتيها الناس لتطلب ميرتها منها، وما ذلك إلا بتدبير الله لها {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}. وتأمل كيف كان قدر الله لبني يعقوب -بني إسرائيل- أن يأتوا إلى مصر ليستوطنوها، لتبدأ دورة أخرى في حياة البشر، ليأتي بعد ذلك فرعون فيستعبدهم، ثم يبعث الله موسى -عليه السلام؛ ليستنقذهم، حقا: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}؛
فاعلم أن الله عزيز؛ وإذا أراد الله شيئًا، وأراد كل الخلق شيئًا؛ كان ما أراد الله، ولا مغالب لما أراد {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
فلا تكن بعد هذا كله ممن قال الله فيهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105].
الدعاء