خطبة عن (السعْيُ المَشْكُورُ)
مايو 11, 2025الخطبة الأولى (اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (39): (41) الحج.
إخوة الإسلام
في هذه الآيات المباركات، من كتاب الله العزيز: حكم الله تعالى لعباده المؤمنين بأحقيِّة دفاعهم عن أنفسهم وديارهم، إذ هم مظلومون، غير ظالمين، ومعتدى عليهم، غير معتدين، وليس هذا فحسب، وإنما أخبرهم سبحانه وتعالى أن يطمئنوا إلى حماية الله لهم، ونصرته إياهم: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج:39)، فاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فهل بعد هذا الإذن الإلهي – بالدفاع عن أنفسهم، وديارهم، ومقدساتهم-، من يحق له أن يقول: ليس للمظلوم أن يدفع ظالمه ويدافعه!، وأن ليس للمستضْعَف أن يطالب برفع الظلم عنه!،
والله سبحانه وتعالى قبل أن يأذن للفئة المؤمنة بالانطلاق إلى المعركة، آذنهم أنه هو من سيتولى الدفاع عنهم، فهم في حمايته وأمنه، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (الحج:38) وبالطبع، فإن هذا الوعد مشروط بأخذ أسباب النصر كافة، قال الرازي: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج:39)، فذلك وعد منه تعالى بنصرهم، فنصر الله للمسلمين على أعدائهم من الكفار المحاربين لهم وعدُ حقٍّ، وقولُ صدقٍ، فقد وعد الله تعالى به المؤمنين، وأخبرهم أنه قريب، وإنما يؤخره تعالى لحكَم جليلة، ومن كان قوي الإيمان، صادق اليقين فسيعلم أن ذلك يكون قريباً كما أخبر به الرب تعالى}. فهو سبحانه وتعالى قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكنه سبحانه يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، كما قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:٤-٦]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٢] وقال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١].
ويقول سيد قطب(في الظلال): (لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم؛ كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة؛ فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها، كما تستيقظ وهي تواجه الخطر، وهي تدفع وتدافع، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة، عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أُودع فيها من استعداد لتؤدي دورها، ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة، ولتؤتي أقصى ما تملكه، وتبذل آخر ما تنطوي عليه، وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها، وما هي مهيأة له من الكمال.. والنصر السريع الذي لا يكلف عناء، والذي يتنزل هيناً ليناً على القاعدين المستريحين، يعطل تلك الطاقات عن الظهور؛ لأنه لا يحفزها ولا يدعوها…. من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا، يتم عن طريقهم هم أنفسهم، ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء”. فالنصر كالرزق سواء بسواء، لا يأتي إلا بطلب أسبابه المنوطة بكسبه، والسعي في سبله المؤدية إلى تحصيله، سنة الله لا تتخلف ولا تتبدل)
أيها المسلمون
ومن المعلوم يقينًا أن النصر على الأعداء له أسباب تحققه للمسلمين على عدوهم بإذن الله تعالى، ومن هذه الأسباب: الإيمان والعمل الصالح: قال الله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) النور:55، ومن أسباب النصر: نصرة دين الله تعالى، والقيام به ،قولاً، واعتقاداً، وعملاً، ودعوةً، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) محمد :7،8، ومن أسباب النصر: التوكل على الله، مع الأخذ بالأسباب، قال تعالى: ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران/ 159. وقال الله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) الأنفال/ 60، ومن أسباب النصر: المشاورة بين المسؤولين لتعبئة الجيوش الإسلامية، قال سبحانه: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) الشورى/ 38، ومن أسباب النصر: الثبات عند لقاء العدو: ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا»، وفي رواية: (ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ «أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ – ثُمَّ قَالَ – اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِىَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ»، ومن أسباب النصر: الاتصاف بالشجاعة، والتضحية بالنفس، والاعتقاد بأن الجهاد لا يقدم الموت، ولا يؤخره، قال الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) النساء/ 78، ومن أسباب النصر: الدعاء وكثرة الذِّكر: فالاستغاثة بالله ، وكثرة ذكره؛ سبب للنصر، لأنه سبحانه القوي القادر على هزيمة أعدائه، ونصر أوليائه، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (45) الانفال، ومن أسباب النصر: طاعة الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) النور/ 52، ومن أسباب النصر: الاجتماع وعدم النزاع: فعلى المجاهدين أن يحققوا عوامل النصر ولا سيما الاعتصام بالله، والتكاتف، وعدم النزاع والافتراق، قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال/ 46، ومن أسباب النصر: الإخلاص لله تعالى: فلا يكون المقاتل والغازي مجاهداً في سبيل الله إلا بالإخلاص، قال الله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ ) الأنفال/ 47، ومن أسباب النصر: إسناد القيادة لأهل الإيمان: أي تولية قيادة الجيوش، والسرايا، والأفواج، والجبهات، لمن عُرفوا بالإيمان الكامل، والعمل الصالح، ثم الأمثل فالأمثل، قال الله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات/ 13، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ،فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»
أيها المسلمون
ونصر الله قد يتأخر عن عباده المؤمنين؛ وذلك لا يعني أن الله مخلف وعده عباده، بل على المؤمنين أن يوقنوا أن وراء تأخر النصر حكمة لا يعلمها غيره سبحانه، فأن تأخر النصر إنما قد يكون لأسباب؛ فصلها (سيد قطب) رحمه الله، فقال: (قد يبطئ النصر؛ لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ..فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً، والحفاظ عليه!
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله.
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل الأمة آخر ما في طوقها، ثم تكل الأمر بعدها إلى الله.
وقد يبطئ النصر؛ لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل، ولا تجد لها سنداً إلا الله، ولا متوجَّهاً إلا إليه وحده. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.
وقد يبطئ النصر؛ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، أو تقاتل لحزب تؤيده، أو تقاتل لرايات دنيوية ترفعها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، فَهْوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
وقد يبطئ النصر؛ لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها؛ ليتمحض خالصاً، ويذهب وحده هالكاً، لا تتلبَّس به ذرة من خير، تذهب في الغمار!
وقد يبطئ النصر؛ لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة، لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون حينئذ، فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء، الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل، حتى يتكشف عارياً للناس، ويذهب إلى مزابل التاريخ غير مأسوف عليه!
وقد يبطئ النصر؛ لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة؛ فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة، لا يستقر لها معها قرار، فيظل الصراع قائماً؛ حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه، من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا، وتحقيق النصر لهم في النهاية، قال تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (21) يوسف.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وبعد هذا كله، فقد نسمع قائلا يقول: أين هذا النصر ونحن نرى المؤمنين كثيرًا ما يُنَكَّلُ بهم، ويصيبهم الأذى، بل وربما القتل في شتى البقاع والأزمنة؟!، والجواب على هذا السؤال ينبغي أن يسبقه حقيقة إيمانية، لا بد أن تكون راسخة في قلبِ كلّ مؤمن يؤمن بأنّ هذا القرآن هو كلام الله، وأنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفه، فيوقِن أنّ وَعْد الله حقّ، وأنه لا يُخْلِف الميعاد، ويكون على ثقة تامّة ويقين جازم بذلك، فإذا ما رأى المؤمنون على أرض الواقع خلاف ما وَعَد الله في كتابه، فليس أمامهم إلا أمران: الأمر الأول: أن يتَّهِموا أنفسَهم بالتقصير في تحقيق شرط النّصر، وأنهم بوَضْعهم الحالي ليسوا أهلًا لتحقيق وَعْد الله؛ لأنّ الله وَعَد بالنصر مَنْ كان أهلًا لذلك، ومن تحقّق فيه شرطه، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. وهذا كان حال المؤمنين الأوائل، إذا تأخَّر عنهم النصر راجعوا أنفسهم، وفتَّشوا عن الذنوب والعيوب؛ ليقينهم بأنّ وَعْد الله لا يتخلَّف أبدًا، فإذا لم ينتصروا فقد يكون ذلك بسبب ذنوبهم، قال تعالى :{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]. الأمر الثاني: أنهم ربما لم يفهموا كلام ربّ العالمين بوعوده بالتمكين، وذلك يرجع إلى سببين: السبب الأول: عدم فهم السّنن الإلهية في تحقيق النصر، فالله -عز وجل- لا يمكِّن لعباده في الأرض إلا بعد أن يُبْتَلَوْا، ولنا في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُسوة حَسنة، فقد كان في العهد المكيّ مع أصحابه مستضعَفين، ثمّ مَكّن اللهُ لهم بعد ذلك بعد الهجرة وحتى وفاته -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذلك لما سُئِلَ الشافعِيُّ -رحمه الله-: أيُّهما أفضلُ للرجل أن يُمَكَّنَ أو يُبْتَلَى؟ قال: «لا يُمَكَّنُ حَتَّى يُبْتَلَى»، السبب الثاني: عدم فهم حقيقة النصر وحَمْله على صورة ذهنية واحدة، فنصر الله -عز وجل- للمؤمنين له صورٌ كثيرة إضافة إلى الصورة المتبادرة إلى الذّهن.
الدعاء