خطبة حول حديث ( إِنَّ رَحَى الإِسْلاَمِ سَتَدُورُ بِخَمْسٍ وَثَلاَثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلاَثِينَ أَوْ سَبْعٍ وَثَلاَثِينَ )
نوفمبر 1, 2025الخطبة الأولى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌۚ نُورٌ عَلَى نُورٍۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور:٣٥].
إخوة الإسلام
إن هذه الآيةَ الكريمة من كتاب الله العزيز لهي من أعظمِ ما نزل في كتابِ الله تعالى، وفي معناها: قال ابنُ عباسٍ (رضي اللهُ عنهما): «هُوَ هَادِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ». فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من الضلالة ينجون، وقال السُّدِّي: «مُدَبِّرُ أَمْرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بِنُورِهِ». قال الشيخ السعدي، رحمه الله: ” (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ): الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته نور، وحجابه -الذي لولا لطفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه- نور، وبه استنار العرش، والكرسي، والشمس، والقمر، والنور، وبه استنارت الجنة. وكذلك النور المعنوي يرجع إلى الله، فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور. فلولا نوره تعالى، لتراكمت الظلمات، ولهذا: كل محل، يفقد نوره فثم الظلمة والحصر. وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ – وَفِى رِوَايَةِ أَبِى بَكْرٍ النَّارُ – لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»
فالنورُ ليس ضياءَ الشمسِ والقمرِ فقط، بل هو نورُ الإيمانِ، الذي يُشرقُ في القلوب، ونورُ الوحيِ الذي يُبدِّدُ ظلماتِ الجهل، ونورُ الهدايةِ الذي يُخرِجُ الناسَ من ظلماتِ الشركِ والضلال، إلى نورِ التوحيدِ والعرفان، فهو نورُ الهدايةِ في السماء والأرض، بهِ أشرقتِ القلوبُ، واطمأنَّتِ الأرواحُ، ومن حُرِمَ هذا النورَ عاشَ في ظلمةٍ وإن أُضيءَ له النهار.
وتأمَّلوا هذا التشبيه الربَّاني: «كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ»: فالمشكاةُ هي الكوَّةُ في الجدارِ غيرُ النافذة، فيها مصباحٌ يُنيرُ أضعافَ ما لو كان مكشوفًا، في صفاءٍ وإشعاعٍ عجيب، وهذا تمثيلٌ لنورِ الله في قلبِ المؤمن، الذي يتلقّى الوحيَ، فيضيءُ به قلبُه وجوارحُه، فالقلبُ الذي امتلأ بنورِ الإيمانِ، يرى بنورِ الله، لا تغُرُّه الدنيا بزخرفِها، ولا تُعميه الشهواتُ ببريقِها، قال النبي ﷺ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» (رواه الترمذي وحسَّنه).
وحينما يقول اللهُ تعالى: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، فهذا يعني أن الهدايةَ نورٌ، يقذِفُه اللهُ في القلوب، فيعرفُ العبدُ الحقَّ فيتبعه، ويُبصِرُ الباطلَ فيجتنبه، ومن حُرمَ نورَ الله، فلا نورَ له، فهو يعيشُ في ظلماتِ الشكِّ والهوى، وإنْ كانت له عيونٌ تُبصِرُ الأجسامَ، لأن قلبَهُ أعمى عن الحقائق، قال اللهُ تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور:٤٠].
أيها المسلمون
وفي زماننا هذا الذي غابت القيم، واشتدّت فيه ظلامات الفتنِ والشهوات، وأصبح المؤمنُ محتاجًا إلى نورٍ من الله، ليُنيرُ له الطريق، وأصبح محتاجا لنور العلمِ، الذي يُبصِّرُه به الحق ،ومحتاجا لنور الإيمانِ، الذي يثبِّته في مواطنِ الزلل، ومحتاجا لنور القرآنِ، الذي يُخرجه من ظلماتِ النفسِ والهوى، إلى نور الهداية والتوفيق، قال الحسنُ البصريُّ (رحمه الله): «إنَّ للقرآنِ نورًا في القلبِ، لا يُعطَى إلا لمن أحبَّه اللهُ واصطفاه».
فإذا أردتَ يا عبدَ الله أن ترى بنورِ الله، فأكثرْ من قراءةِ كتابِ الله، وتأمَّلْ آياتِه، واعملْ بما فيه، تُشرقْ في قلبِك أنوارُ الهدايةِ والإيمان.
فكم نحتاجُ إلى هذا النورِ في زمنٍ كثُرتْ فيه الظلماتُ الفكريةُ والنفسيةُ والمجتمعية، وظلماتُ الشهواتِ والشبهات، وظلماتُ الانحرافِ عن منهجِ الله، وظلماتُ القلبِ حين يُعرضُ عن القرآنِ ولا يَستضيءُ به.
والمؤمنَ الحقَّ يعيشُ في نورٍ من الله، فيراهُ في سُلوكِه، وفي نظرِه، وفي قولِه، حتى يُصبحَ وجودُه بركةً لمن حولَه، قال اللهُ تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:١٢٢].
فما أجملَ أن يكونَ قلبُك مضيئًا بنورِ الطاعة، ولسانُك منيرًا بذكرِ الله، وجوارحُك تسيرُ في سبيلِه، تُبصِرُ بنورِ القرآنِ طريقَ الحقِّ والرشاد. وإذا أراد العبدُ أن يَنالَ من هذا النورِ الربَّاني، فليُقبِل على كتابِ الله قراءةً وتدبّرًا، وليُطهِّر باطنَه من الذنوبِ والمعاصي، فإن الذنوبَ تُطفئُ نورَ القلب، كما قال بعضُ السلف: «إنِّي لأرى ظلمةَ معصيتي في خُلقِ دابَّتي وأهلي». ولذلك قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد:٢٨].
أيها المسلمون
ومن آثار هذا النورِ في حياةِ المؤمن: أن يكونَ متوازنًا مطمئنًّا، لا تُغريه فتنُ الدنيا، ولا تُضلُّه ظلماتُ الأهواءِ، فهو يرى ببصيرتِه ما لا يراهُ أصحابُ البصائرِ المطموسة، ويهتدي بالحقِّ في زمنِ الفتنِ والاضطرابات،
وهو يسألُ اللهَ أن يُنوِّرَ قلبه بنورِ الإيمان، وأن يجعله من الذينَ قال الله فيهم: ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [التحريم:٨]. وفي الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَقُولُ في دعائه: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِى لِسَانِي نُورًا وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا وَمِنْ أَمَامِي نُورًا وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا وَمِنْ تَحْتِي نُورًا. اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا».
واعلموا أن الذنوبَ والمعاصي تُطفئُ نورَ القلوب، كما يُطفئُ الغبارُ سراجَ المصباح، قال ابنُ القيم رحمه الله: «النورُ يُجلبُ بالطاعةِ، ويُذهبُ بالمعصية».
ومن آثار الذنوب: حرمان العلم والرزق: فقد جاء في أخبار السابقين: جلس الشافعي إلى الإمام مالك يوما، فأعجب به مالك و قال له: إن الله قد قذف في قلبك نورا، فلا تطفئه بظلمة المعصية، ولكن الشافعي خالف وصية مالك يوما، فنظر إلى كعب امرأة في طريق ذهابه إلى شيخه وكيع بن الجراح، فنسي وتعثر في حفظه، فأكد وكيع نصيحة مالك، بترك الذنوب دواء ناجعا للحفظ. فقال:
شَكَوتُ إِلى وَكِيعٍ سوءَ حِفظي فَأرشَدني إِلى تَركِ المَعاصي
وأخبرني بِأنَّ العلمَ نورٌ ونورُ اللّهِ لا يُهدى لِعاصي
فكلَّما أخلصتَ للهِ ازددتَ نورًا، وكلَّما عصيتَه أظلمَ قلبُك، حتى لا ترى طريقَ الحقِّ وإن كان أمامَك، فلنُطهِّرْ قلوبَنا من الذنوبِ صغيرِها وكبيرِها، ولنُجدِّدْ التوبةَ، ولنُكثِرْ من الاستغفار، حتى يسكبَ اللهُ علينا من نورهِ ما يُحيي به أرواحَنا، ويهدي به قلوبَنا.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم،
الخطبة الثانية (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وإذا أشرقت أنوارُ الإيمانِ في القلب، أشرقت آثارُها في السلوكِ والمعاملة، فالمؤمنُ نورٌ يمشي بين الناسِ، يُنيرُ قلوبَهم بأخلاقِه قبلَ أقوالِه، ويدعو إلى اللهِ بسمتِه وفعله قبلَ لسانِه.
قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الزمر:٢٢].
وذلكم النورُ يظهرُ في لينِ الجانب، وفي صفاءِ القلب، وفي رحمةِ المؤمنِ بإخوانِه، قال النبي ﷺ: «المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بعضًا» (رواه البخاري). فمن أشرقَ قلبُه بنورِ الله، أطفأَ نارَ الغضبِ بالحِلم، وأزالَ ظلمةَ الحسدِ بالرضا، ونشرَ في المجتمعِ نورَ المحبةِ والتسامح.
فلننظرْ في أنفسِنا، كم من النور في قلوبِنا؟!، وهل أنوارُ الطاعةِ تملؤها، أم ظلماتُ الغفلة تغمرها؟، ولنعدْ إلى كتابِ اللهِ، فهو النورُ الذي لا ينطفئ، ولنتمسَّكْ بسُنَّةِ نبيِّنا ﷺ، فهي المصباحُ الذي لا يخبو، قال تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾ [التغابن:٨]. فما أنزلَ اللهُ النورَ إلا ليُخرِجَنا من الظلماتِ إلى النور، ولا نكون من الذينَ قال الله فيهم: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ البقرة (257).
واعلموا أن من أضاءَ اللهُ له قلبَه في الدنيا بنورِ الطاعة، أضاءَ الله له قبرَه، وأمَّنهُ من فزعِ القيامة، قال النبي ﷺ: «بَشِّروا المَشَّائينَ في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامة» (رواه الترمذي). فما أعظمها من بشارةٍ لمن اعتادَ الطاعةَ في السرِّ والعلن!
والمؤمنُ نورٌ أينما كان، يُطفئُ الفتنةَ بالحكمة، ويُضيءُ القلوبَ بالكلمةِ الطيبة، ويَدعو إلى اللهِ على بصيرةٍ. وحين تملأُ أنوارُ الإيمانِ قلبَ العبد، تُبدَّدُ عنه ظلماتُ الخوفِ والحزن، فيعيشُ بنورِ اللهِ في الدنيا، وينتظره نورٌ أعظمُ في الآخرة، قال تعالى: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (8) التحريم،
فليكن شعارُنا في الحياة: أن نعيشَ بالنورِ، وننشرَ النورَ، ونموتَ على النورِ، لنلقى اللهَ وهو راضٍ عنَّا، ولنكثرْ من الطاعات، ولنحرصْ على الصلوات، ولنغتنمْ مجالسَ الذكرِ والعلم، فهي مصابيحُ في الأرضِ، تضيءُ لأهلِ السماء.
الدعاء
