خطبة عن (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ)
مايو 10, 2023خطبة عن (من صور الصدق)
مايو 11, 2023الخطبة الأولى (المترفون والإفساد في الأرض)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (16) الإسراء، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (34) سبأ، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (23): (25) الزخرف، وقال تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (116)، (117) هود، وقال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) (33)، (34) المؤمنون
إخوة الإسلام
إن الترف داء عضال، ومرض فتاك قتّال، إن استشرى في أمة ذهب بعزمها، وأورثها كسلاً وخمولاً ، وركونًا إلى الدنيا، ومحبة لها، وحرصًا عليها، فلا يرتجى من أفرادها نفعًا، ولا يُنتظر منهم دفاعًا عن حق، وما بعث الله تعالى نبيا من الأنبياء، في قرية من القرى، إلا كذَّبه مترفوها، واتَّبعه ضعفاؤها، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123]. والمقصود بالترف: هو التنعم في الملاذ ، والتوسع في النعم، بغير طاعة الله تعالى، والترف يؤدي إلى الفساد المالي، والأخلاقي، والاجتماعي، والترف: هو الإغراق في النعم، والاسترسال معها، حتى تصبح كل هموم الإنسان ،ولذلك، فالمترفون هم أعداء الرسل، وهم سبب هلاك الأمم. فمن نتائج الترف: الغفلة، وعبادة الشهوات، والصراع على المكاسب، والعقوبات التدريجية من الله تعالى ، وضياع الدنيا والآخرة. والترَفَ: ليس هو مجرّد الغنى والقدرة على الحصول على ملذّات الحياة المادّية، وإنّما ينشأ الترفُ عندما يتحوّل الغنى إلى حالة مُسَيطِرة على مشاعر الإنسان، وعندما يمتزج بمشاعر استكباريّة، لا ترى فيما حولها، ومن حولها، إلا أدوات لتحقيق مصالحها، فعندئذٍ يُصبح الغنى حالة طغيانٍ وعدوانٍ، يستتبعُ مواجهة كلِّ من يقفُ في وجهها، من أنبياء ومُصلحين وغيرهم. فالمترفون هم من يعترضون على المرسلين وأتباعهم من المصلحين، ويردون دعوة الحق، ويتبجحون بالأسباب المادية الفانية، ويفتخرون بما هم عليه من نعيم وجاه، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ: 35- 37].
فسُنة الله تعالى، أنه إذا قدّر لقرية هلاكا، فإنها تأخذ بأسباب الهلاك، فيعم الفسق والشر، فتحق عليهم السنة الإلهية ، وينزل بهم الدمار، بما كسبت أيديهم، ويصيبهم العذاب؛ لأن الأمة حينئذ رضيت، فلم تأخذ على أيدي المترفين، بل تركتهم يمارسون شهواتهم المردية، وأهوائهم المضلة، فأدى هذا الفسق إلى الدمار والبوار. فالمترفون وإن كانوا في كثير من أقوالهم وأفعالهم قد تجاوزوا حدّ المعاصي، لدرجة الكفر والشرك والطغيان، إلاّ أنهم اعتبروا مفسدين في الأرض، كفرعون وسائر المترفين، الذين واجهوا وعارضوا الدعوة النبوية، كما قال تعالى: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ يونس (91)،
فالمترف يقف على قمة الفساد والإفساد في الأرض، ويمكن القول إنّ كل مترف مفسد، وليس كل مفسد مترفاً، فقد يكون المفسد عاصياً، وفاسقاً، ومنافقاً، وقاتلاً، وساحراً، ولا يكون مترفاً. أما المترف، ففي جميع الآيات التي عرضت لموضوع الترف، فهو الذي يتجاوز هذا كلّه، إلى الفساد في جميع شؤون الناس، سواء في مجال الاعتقاد أو الأخلاق، أو في مجال السلوك والعمل، وقد أفادت التجارب الإنسانية أن المترفين، وخاصة في عصر الرسالة الإسلامية، لم يكونوا مجرّد مفسدين في الأرض بنحو من الأنحاء، وإنّما كانوا مفسدين في الدين والدنيا، ومجرمين، ومستكبرين، قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ القصص (38)
أيها المسلمون
ومن الملاحظ أن هناك قانونا إلهيّا عامّا، وهو أنّ المسؤولين عن انحراف المجتمعات عن دعوات الأنبياء، وسيادة القيم الأخلاقيّة الإنسانيّة، هم المترفون، من أصحاب المصالح، الذين يتحكّمون بمقدّرات المجتمع الاقتصاديّة، ويؤثّرون من خلالها في توجيه السياسات العامّة للحكم والدولة، وينسحقُ أمامهم الناسُ، باعتبار أنّهم يرون حاجاتهم لديهم، ومصالحهم الدنيويّة بين أيديهم، فيدفعهم ذلك إلى الخضوع لتوجّهاتهم، حذرًا من فقدان أقوات يومهم، ومقدّرات عيشهم. ومن هنا، كانت إحدى مهمّات الأنبياء: هي تحفيز عناصر القوّة لدى الطبقات الشعبيّة، التي خضعت لذلّ الحاجة، وشلّت إرادتَها أمام إرادة أصحاب النِّعَم، فأصبحوا قوَّةً لمن يتحكّمون بهم وبمستقبلهم، وشيئًا فشيئًا تحوَّلَ ذلك إلى ذهنيّة تبريريّة، رأت فيها تلك الطبقاتُ قَدَرَها الطبيعيَّ، وأنّ وظيفة أبناء الشعب هي تحقيق رغبات أولئك المترفين، لذلك، ركز القرآن الكريم على أنّ الله تعالى هو الرزّاق، والكفيل بعبادة، قال تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ (الذاريات: 22)،
ولذلك وجدنا عناية الإسلام بتكسير تمركز الثروات العامّة، فقال تعالى: ﴿ ما أفاءَ اللهُ على رَسولِهِ من أهْلِ القُرى فللهِ وللرَّسولِ ولذي القُربى واليتامى والمساكينِ وابنِ السَّبيلِ كَيْ لا يكونَ دُولَةً بينَ الأغنياءِ منكُمْ﴾ (الحشر: 7)، فالإسلام يستهدف المحافظة على التوازن الاجتماعي من خلال تكفّل المجتمع بحاجات أبنائه من الفقراء والمحرومين، من موقع الواجب الإلهيّ، لا المنّة الذاتيّة. وفي الواقع المعاصر، نجد أنّ ظاهرة المترفين تحوّلت إلى شركات احتكاريّة، وإلى مؤسّسات تجاريّة عابرة للحدود، بحيث أصبحت تلك الشركات تتحكّم بأمزجة الناخبين، وتوصلُ حكومات ورؤساء إلى مواقع القرار، وتشكّل “لوبيات” ضاغطة على قرارات الحرب والسِّلم، وقد تفرضُ مصانعُ السلاح التي تخشى كساد بضاعتها، أو المحافظة على الرفاهية العالية لمجتمعٍ ما، شنَّ حَرْبٍ كونيّة، وإثارة الفتن بين الدول والمجتمعات، وخلق أجواء الصراع بين أتباع المذاهب والأديان،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( المترفون والإفساد في الأرض )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وهكذا يتبين لنا أن الترف يرتبط بالفساد ارتباطا وثيقا، وذلك لأن الكثير من المرفهين المترفين يقومون بأعمال غير أخلاقية، ويعملون على نشر الرذيلة والفساد بشتى الوسائل والطرق، فالمال مكنوز في جيوبهم، وهم قادرون على فعل ما يريدون بأموالهم، وكلما زاد الترف والرفاهية، كلما زاد الافساد في الارض، فالمترفون البعيدون عن الله، هم أعداء كل إصلاح، وهم خصوم الحق، يتألبون ضده، ويكوِّنون أحزاباً للمعارضة، التي لا هدف لها إلا كبْتُ حديث الخير والإصلاح، مستغلين ثراءهم في كل دنيـِّة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) (34): (38) سبأ
ولذلك، تُعتبر آيات القرآن الكريم، التي تحدّثت عن المترفين، نوعًا من التنبيه الإلهيّ لنا، حتّى نلتفت إلى مسؤوليّاتنا، تجاه هذه الظاهرة المؤثّرة في حركة المجتمع المسلم.
الدعاء