خطبة عن (منزلة الشهادة والشهداء في الإسلام)
يناير 31, 2024خطبة عن (من دروس الإسراء والمعراج)
يناير 31, 2024الخطبة الأولى (المتواضعون)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (63) الفرقان، وقال تعلى: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) (37) الاسراء، وقال لقمان لابنه وهو يعظه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (18)، (19) لقمان، وفي صحيح مسلم: قال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ».
إخوة الإسلام
التواضع: صفة من صفات المؤمنين، وخلق من أخلاق الموحدين، وهو صفة محمودة، تدل على طهارة النفس، وتدعو إلى المودة والمحبة والمساواة بين الناس، وينشر الترابط بينهم ،ويمحو الحسد والبغض والكراهية من قلوب الناس، والتواضع: خضوع للحق، وقبوله من كل من جاء به، ومن التواضع ألا ترى لنفسك فضلا على أحد من الخلق، مع رؤية النعم والآلاء للمنعم المتفضل، وملاحظة التقصير، والتواضع: يرفع أهله في الدنيا والآخرة، ويعلي قدرهم عند الله وعند الناس. وفي صحيح مسلم: (أن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ».
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتواضع، فقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]،وقال تعالى :{وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]. واستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، فكان أكثرَ الناس تواضعا لله، ومع خلق الله. فكان صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، وفي صحيح البخاري: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «لاَ آكُلُ مُتَّكِئًا»، وفي سنن البيهقي: (رُوِىَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مُقْعِيًا وَيَقُولُ :«أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ». وفي صحيح البخاري: (أن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»، وكان صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه، فلا يتميز عليهم بمكان، ولا بزي ولباس، حتى يدخل الداخل يريده فلا يكاد يعرفه حتى يسأل عنه، ففي صحيح البخاري: (أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِي الْمَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. فَقُلْنَا هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ)، وكان صلى الله عليه وسلم يزور أصحابه في بيوتهم، ويجلس معهم كأحدهم، ويعود مرضاهم، ويشيع جنائزهم، ويشاركهم في أفراحهم، ويواسيهم في أتراحهم، ويسلم على الصغار، ويمسح على رؤوسهم ووجوههم ،ويدعو لهم، وربما يمازحهم، وفي مسند أحمد: (سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ شَيْئاً قَالَتْ نَعَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ). ويظهر -صلى الله عليه وسلم- تواضعه لربه حينما دخل مكة فاتحا، فمواقف النصر والفتوح تستبد بالقادة والفاتحين، فيكون فيها فخرهم وعلوهم، ولا يقدر على التواضع فيها إلا القليل من الرجال، وفي هذا اليوم العظيم ـ يوم الفتح الأكبر ـ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وهو خافض رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل.
أيها المسلمون
والتواضع: يكون مع الله ورسوله، ومع الخلق أجمعين؛ فالمؤمن يتواضع لله عز وجل: بأن يخضع له، ولا يجادل ولا يعترض على أوامره ونواهيه برأيه وهواه, ويتواضع مع الرسول صلى الله عليه وسلم : بأن يستمسك بهديه وسنته، فيقتدي به في كل أدب وطاعة, ويتواضع مع الخلق: بألا يتكبر عليهم، ويعرف الحد بين حقه وحقوقهم فلا يتعداها مهما كانت درجاتهم, فإذا عرف الحق عاد إليه مهما كان مصدره.
والتواضع نوعان: تواضع محمود: وهو ترك التطاول والاستعلاء على عباد الله والازدراء بهم, وتواضع مذموم: وهو تواضع المرء لذي الدنيا، مع التفريط في احترام نفسه رغبة في دنياه, وبذلك يكون التواضع فضيلة بين رذيلتين؛ الإفراط في الكِبر، والتفريط في احترام الذات. وقد عظَّـم الرسول صلى الله عليه وسلم التواضع المحمود ومدحه، ففي سنن البيهقي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ مِنْ غَيْرِ مَنْقَصَةٍ، وَذَلَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْكَنَةٍ)
وللتواضع ثمرات طيبة، وعواقب محمودة، ومنها: أن التواضع صفة محمودة، تؤدي إلى طهارة النفس، وتدعو إلى المودة والمحبة والمساواة بين الناس، وتنشر الترابط بينهم, وتمحو الكراهية والبغضاء والحسد من القلوب. والتواضع عاقبته رضا الله، ونيل الجزاء الأوفى منه، لقوله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (83) القصص. والمتواضعون هم عباد الرحمن الذين يكرمهم ويستحقون الجزاء والمثوبة منه تعالى، قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (63) الفرقان، والتواضع سبب من أسباب حب الرعية لقادتهم وحكامهم، والتفافهم حولهم, ولقد قال الله تعالى لرسوله الكريم ولكل من تولى أمرا من أمور المسلمين: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران (159)،
والسؤال: كيف نحقق التواضع في حياتنا؟ والجواب: بالاجتهاد في كشف ومعرفة عيوب النفس وزلاتها، لتنقيتها من هذه الآفات وتزكيتها، لقوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (7): (10) الشمس، وكذا بالحرص وتدريب النفس على التواضع لمن حوله، والوفاء بحقوقهم، ولين الجانب لهم، واحتمال الأذى منهم، والصبر عليهم، وخاصة الوالدين لكونهم أحق الناس ببره ورعايته. ونحقق التواضع: بأن نحرص على أن نظل بين الخوف من الله تعالى, والرجاء والطمع في رحمته، مع تغليب الخوف على الرجاء، مع اليقين بما سيلاقيه يوم القيامة، وبترك الشهوات المباحة، واللذات الكمالية مع القدرة عليها، احتسابا وتواضعا لله تعالى, ففي سنن الترمذي: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا»، ويتحقق التواضع بتفقد المرضى والفقراء، وخاصة ذوي التعفف والحياء في الطلب، ومواساتهم بالمال والتواضع لهم, ومن القول المأثور: (ما رأيت أحسن من غنيِّ جالس بين يديْ فقير)، ويتحقق التواضع: بإقناع النفس أنها ليست أفضل من غيرها عند الله, بل على الإنسان أن يظن بنفسه التقصير في حقه سبحانه، قال تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (32) النجم، والمؤمن الحق: هو الذي امتلأ قلبه بالإيمان، ويعقل ويدرك أن التكبر لا يرفع صغيراً, وأن التواضع لا يخفض كبيراً, وأن خفض الجناح ولين الجانب والرفق والرحمة أمور ما شاعت في الأمة إلا كانت سبيل ألفتها, وباعث وحدتها.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (المتواضعون)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وإذا كان الإسلام قد أمرنا ورغبنا في خلق التواضع، فقد حذرنا من الكبر والتكبر، فالكبر والعجب يضع صاحبه أيضا في الدنيا والآخرة، وعند الله وعند الناس، فعن ابن مسعود، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ) [رواه مسلم]. وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ وَأَبِى هُرَيْرَةَ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِى عَذَّبْتُهُ ».وأما في الآخرة: فيحشرهم الله على أقبح الصور وأذلها وأوضعها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يومَ القيامةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ من كلِّ مَكَانٍ، يُساقُونَ إلى سِجْنٍ في جهنمَ يُسَمَّى بُولَسَ، تَعْلوهُمْ نارُ الأنْيارِ، يُسْقَوْنَ من عُصارَةِ أهلِ النارِ طِينَةَ الخَبالِ) [رواه الترمذي]. فكانوا في الدنيا يحتقرون الناس ويستصغرونهم، فحشرهم الله على هذه الهيئة الوضيعة في حجم صغار النمل صورهم صور الرجال، يعلوهم الذل عقوبة لتكبرهم على الخلق في الدنيا، يطؤهم الناس بأقدامهم كما كانوا يطؤن هم رقاب الناس كبرا وعجرفة في الحياة الدنيا، فكانت عقوبتهم من جنس عملهم جزاء وفاقا. والمتكبر يكرهه الناس، لأن القلوب مفطورة على حب من أحسن إليها، وبغض من تكبر عليها، فهو يحتقرهم ويراهم في عينه صغارا، ولا يدري أنه في أعينهم أصغر وأحقر، وفي صحيح البخاري: (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلاَءِ خُسِفَ بِهِ، فَهْوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وعند مسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى قَدْ أَعْجَبَتْهُ جُمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ الأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ».
الدعاء