خطبة عن (القرآن هُدًى لِلنَّاسِ)
أبريل 8, 2025خطبة حول قوله تعالى ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ )
أبريل 12, 2025الخطبة الأولى (المسلم وفقه الاستضعاف)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (26) الأنفال، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (97): (99) النساء.
إخوة الإسلام
لقد اقتضت حكمة الله تعالى، أن يبتلي عباده المؤمنين بتسلط أعدائهم عليهم مدة من الزمن، وذلك للابتلاء والتمحيص، ولتمييز الخبيث من الطيب، وهذا مقتضى سنة المدافعة، والصراع بين الحق والباطل، قال الله وتعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (140): (142) آل عمران، ومن حكمة الله تعالى في تسليط أعدائه على أوليائه، واستضعافهم لهم، لجوء المستضعفين إلى ربهم، ودعائهم له، ويقظة الغافلين منهم ،واستثارة هممهم وعزائمهم، في مواجهة ومدافعة الباطل وأهله، وبقاء جذوة الدين مشتعلة ، ففي باطن الاستضعاف وكثرة المحن حِكم ومِنح لمن يفقهها.
والمُتأمل في أحوال الأمة الإسلامية اليوم، يرى ما أصابها من مهانة واستضعاف، من قبل أعدائها الكفرة، والمنافقين ممن يعيشون بينهم، فالأمة الإسلامية تعيش اليوم مرحلة استضعاف، فقد استقوى عليها أعداؤها، وتكالب عليها خصومها، وصدق فينا قول رسولنا صلى الله عليه وسلم مما رواه أبود داود وأحمد: (عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأُكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا». قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». قَالَ قُلْنَا وَمَا الْوَهَنُ قَالَ «حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ». ولذلك، فنحن –المسلمين- في هذه الحقبة من حقب التاريخ، بحاجة إلى معرفة أحكام الاستضعاف، وما يتعلق به، إذ إن لمرحلة الاستضعاف أحكاماً واردة في كتب الفقه الإسلامي، حري بكل مسلم أن يطلع عليها، لأن العلم بفقه الاستضعاف، وفقه الممكن، علم يدل على شمول الشريعة، وأنها قائمة على الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة، ولأن الجهل بهذا الفقه، يؤول إلى كوارث وعنت ومشقة على هذه الأمة، وهذا مما يتنافى مع مقاصد الشريعة، وصلب هذا الفقه، وقاعدته التي ينطلق منها: وهو فقه الموازنات بتحقيق المصالح، ودرء المفاسد، والموازنة بينهما عند التعارض، يقول العز بن عبدالسلام -رحمه الله تعالى: (إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك، امتثالا لأمر الله تعالى لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) [التغابن:١٦] ،فإن تعذر الدرء والتحصيل، وكانت المفسدة أعظم من المصلحة، درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة). ويدخل تحت هذه القاعدة مسألة الإكراه والضرورة، ومسائل رفع الحرج والتيسير، وسد الذريعة، وتغير الفتوى بتغير الحال والزمان والمكان، وارتكاب أهون المفسدتين عند التعارض، وتحصيل أعظم المصلحتين عند التعارض، بشرط التحقق من وقوعها.
كما ينطلق هذا الفقه- أعني (فقه الاستضعاف)- من مسألة أخرى مهمة، ألا وهي التمكن من فعل المأمور، وترك المحذور القائم، على التمكن من العلم بالحكم، والتمكن من العمل به، فاذا انتفى أحدهما: انتفى التكليف، وانتفت المؤاخذة، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (والحجة على العباد تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به … لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل). والقاعدة الفقهية المشهورة تقول: (لا واجب في الشريعة مع العجز، ولا حرام مع الضرورة)، وأدلة ذلك من الكتاب والسنة كثيرة: فمثال (لا واجب مع العجز): قوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) (المجادلة:٤), وقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»، ومثال (لا حرام مع الضرورة): قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (173) البقرة.
أيها المسلمون
ولنعلم بداية أن للاستضعاف أسبابه الداخلية والخارجية، فمن الأسباب الداخلية: ذنوب العباد، وهذا علاجه التوبة إلى الله عز وجل، وتغيير الأحوال إلى ما يحبه الله، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:١١). ومن أعظم الذنوب التي ينشأ عنها الاستضعاف، وتسلُّط الأعداء: تفرُّق المسلمين واختلافهم، وخصومات بعضهم لبعض، والتفريط في الأخذ بأسباب القوة، وإعداد العدة، وحب الدنيا، وكراهة الموت، وكذا خطر المنافقين وكيدهم. أما الأسباب خارجية للاستضعاف: فغزو الأعداء واحتلالهم لبلدان المسلمين، وما ينشأ عن ذلك من الغزو الفكري، وكذا الحصار الذي يضرب على بلدان
المسلمين بمختلف أشكاله.
أما عن وسائل رفع الاستضعاف: فالتوبة الصادقة من المعاصي، التي تُعد من أهم أسباب البلايا، ودعاء الله عز وجل أن يكشف الضر، قال تعالى: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) الأنعام:43، وتصحيح الإيمان، وقوة العقيدة، مع القضاء على أسباب الفُرقة، والسعي على جمع الكلمة، وتآلف القلوب، والإعداد للجهاد، والأخذ بأسباب القوة، والإعداد (الإيماني، والاقتصادي، والإعلامي، والعسكري)، والتحالفات والمعاهدات بضوابطها الشرعية، مع الهجرة من أماكن الاستضعاف والتسلُّط، وإظهار الدين في مكان آخر، فإن تعذَّر ذلك بعجز أو تغليب مصلحة البقاء، فقد تحققت الضرورة مع السعي للمدافعة.
ومن أمثلة فقه الاستضعاف، وفقه التمكين: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الأصنام في جوف الكعبة طيلة العهد المكِّي دون تحطيم، لأنه وقت استضعاف، ثم تحطيمه لها في فتح مكة، عند التمكين. وأيضا: كف اليد عن القتال في مكة، والصبر على أذى المشركين وسخريتهم، لأنها مدة استضعاف، ولا قدرة للمسلمين على مواجهة الكفار، ثم فرض الجهاد في المدينة عند التمكين، وفي العهد المكي: كان المشركون يستهزؤون بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويضعون سَلَا الجَزور على رأسه الشريف وهو ساجد، ومع ذلك لم يرد عليهم، بل صبر، وصبر أصحابه، مراعاة لحال الاستضعاف، بينما في حال التمكن في المدينة، انتدب إلى كعب بن الأشرف اليهودي من يقتله، حينما سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وتشبَّب بنساء المسلمين. وكان آل ياسر يُعذبون في مكة، وتُرمى أم عمار برمح في عفتها وتموت، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يسمعون ويرون، ثم لا يملكون إلا أن يقولوا: (صبرًا آل يَاسِر فَإِنَّ مَوعِدُكُم الجَنَّة)، لأنهم في حال استضعاف. بينما نراهم في المدينة بعد التمكين، لم يصبر ذاك الصحابي، الذي رأى يهوديًا في سوق بني قينقاع، يربط ثوب امرأة مسلمة وراءها، حتى بدت عورتها، حيث قام إليه وقتله، وكان ذلك سبب إجلاء يهود بني قينقاع من المدينة.
ورغم هذا الوهن والاستضعاف الذي نلمسه ونشاهده اليوم في أمة الإسلام، ولكن لابد أن نؤمن أن العاقبة للمتقين، وأن نصر الله آت، ولو بعد حين، وذلك حينما يعود المسلمون إلى دينهم، وينفضوا عنهم غبار الاستضعاف، ففي مسند أحمد: (قَالَ حُذَيْفَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيَّةً فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ »، وفي صحيح مسلم: (عَنْ يُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ هَاجَتْ رِيحٌ حَمْرَاءُ بِالْكُوفَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ هِجِّيرَى إِلاَّ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ جَاءَتِ السَّاعَةُ. قَالَ فَقَعَدَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ إِنَّ السَّاعَةَ لاَ تَقُومُ حَتَّى لاَ يُقْسَمَ مِيرَاثٌ وَلاَ يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ. ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا – وَنَحَّاهَا نَحْوَ الشَّأْمِ – فَقَالَ عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الإِسْلاَمِ. قُلْتُ الرُّومَ تَعْنِى قَالَ نَعَمْ وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمُ الْقِتَالِ رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لاَ تَرْجِعُ إِلاَّ غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ فَيَفِىءُ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لاَ تَرْجِعُ إِلاَّ غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ فَيَفِيءُ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لاَ تَرْجِعُ إِلاَّ غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يُمْسُوا فَيَفِيءُ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الرَّابِعِ نَهَدَ إِلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فَيَجْعَلُ اللَّهُ الدَّبْرَةَ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُونَ مَقْتَلَةً – إِمَّا قَالَ لاَ يُرَى مِثْلُهَا وَإِمَّا قَالَ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا – حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ فَمَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا فَيَتَعَادُّ بَنُو الأَبِ كَانُوا مِائَةً فَلاَ يَجِدُونَهُ بَقِىَ مِنْهُمْ إِلاَّ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ فَيَرْفُضُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَيُقْبِلُونَ فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنِّي لأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ». وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلاً فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلاَصُ فَلاَ يُسْعَى عَلَيْهَا وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلاَ يَقْبَلُهُ أَحَدٌ».
فعلى المسلمين ألا يهنوا ولا يحزنوا ولا يحبطوا، ما داموا على الحق ثابتين، حتى وإن قهرهم وغلبهم عدوهم، وألا ينظروا إلى الهزيمة على أنها حظهم ما داموا أحياء، بل عليهم أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا، ويفعلوا من الأسباب ما يعذرون به أنفسهم، قال تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (139)، (140) آل عمران، فالنصر من عند الله، وهو الذي يوقعه بحكمته متى شاء، قال تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (126) آل عمران، فالإسلام دين الله المنتصر ،طال الزمان أم قصر، وكلمته سبحانه وتعالى ظاهرة، ولو كره المشركون، والبقاء للحق، والعاقبة للتقوى، وجند الله هم الغالبون، ذلكم وعد غير مكذوب.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (المسلم وفقه الاستضعاف)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وإذ نتأمل في المنهج النبوي، في التعامل مع مرحلة الاستضعاف، نجد عدة ملامح ومنها: التوجه إلى الله بالدعاء: فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: “اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ” [صحيح البخاري]. وتأمل قول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)، فلابد أن نتوب إلى الله -عز وجل- عسى ربنا أن يرحمنا، بعد ما حلَّ ببلادنا من البلاء، وبأمتنا من استضعاف،
ومن المنهج النبوي في التعامل مع مرحلة الاستضعاف: البشارة: قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ وَمُعْطِيكُمْ حَتَّى تَسِيرَ الظَّعِينَةُ فِيمَا بَيْنَ يَثْرِبَ وَالحِيرَةِ أَوْ أَكْثَرَ مَا يُخَافُ عَلَى مَطِيَّتِهَا السَّرَقُ” [سنن الترمذي]. وفي مسند أحمد: (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ – قَالَ – وَعُرِضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الْخَنْدَقِ لاَ تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ – قَالَ – فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ عَوْفٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ «بِسْمِ اللَّهِ». فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ «اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ وَاللَّهِ إِنِّى لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِى هَذَا». ثُمَّ قَالَ «بِسْمِ اللَّهِ». وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ «اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا». ثُمَّ قَالَ «بِسْمِ اللَّهِ». وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ «اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا»
ومن المنهج النبوي في التعامل مع مرحلة الاستضعاف: البحث عن المخرج، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:41،42]، قال صلى الله عليه وسلم: “لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا” [سيرة ابن هشام].
ومن المنهج النبوي في التعامل مع مرحلة الاستضعاف: البحث عن نصير: فقد مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتَّبِعُ النَّاس فِي مَنَازِلهمْ، عكاظ ومجنة، فِي المواسم، يَقُولُ: “مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَة ربى وَله الْجنَّة” [السيرة لابن كثير].
ومن المنهج النبوي في التعامل مع مرحلة الاستضعاف: تحقيق النموذج الرائع في الصبر والثبات مما يدعى الأعداء إلى إعادة النظر: عن أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَتْ: وَاَللَّهِ إنَّا لَنَتَرَحَّلُ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامِرٌ فِي بعض حاجاتنا، إِذا أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيَّ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ -قَالَتْ: وَكُنَّا نَلْقَى مِنْهُ الْبَلَاءَ أَذًى لَنَا وَشِدَّةً عَلَيْنَا- قَالَتْ: فَقَالَ: إنَّهُ لَلِانْطِلَاقُ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: نَعَمْ وَاَللَّهِ، لَنَخْرُجَنَّ فِي أَرْضِ اللَّهِ، آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ مَخْرَجًا، قَالَتْ: فَقَالَ: صَحِبَكُمْ اللَّهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ رِقَّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ -فِيمَا أَرَى- خُرُوجُنَا. [سيرة ابن هشام].
وفي سبيل تحقيق الاستخلاف: ينبغي أن يعلم الجميع: أن واجب تحقيق الاستخلاف هو واجب كل مسلم، حسب ما أعطاه الله من قدرات وإمكانات، وعلى العلماء تقديم الفكرة ليتداعى الجميع إلى تحقيقها، كل حسب قدرته وما يحسنه من مهارات الحياة، وكل خطوة مهما كانت صغيرة تقترب من الهدف ينبغي الثناء عليها، ودعمها حتى تكبر.
ولاشك أن للاستخلاف ثمناً باهظاً، ولكنْ للاستضعاف أثمان يدفعها الفرد كما تدفعها الأمة، وإذا كان الإنسان سيدفع على كل حال، فليكن الثمن المناسب للحياة المناسبة، والحياة أخذاً وعطاء، قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
الدعاء