خطبة عن قوله تعالى ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)
مايو 6, 2017خطبة عن ( صلاح الآباء ينفع الأبناء)
مايو 9, 2017الخطبة الأولى ( المفسدون في الأرض )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف : 56 ]
وقال تعالى : {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} [ البقرة : 205]
وقال تعالى : (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) المائدة (64) ، وقال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (81) يونس
وقال تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (14) النمل ،وقال تعالى : (وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) الأعراف (142)
إخوة الإسلام
لقد أمر الله تعالى عباده بالإصلاح، وأرسل أنبياءه بذلك ، فقال تعالى على لسان قائلهم: ( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) هود 88، ونهى سبحانه وتعالى عباده عن الفساد والإفساد في الأرض، فقال تعالى 🙁 وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) الشعراء 183 ،وفي لغة العرب : الفساد نقيض الإصلاح ، وفي الاصطلاح: هو إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح ، والإفساد في الأرض أمر يجب التحذير منه والتنبه له، لأنه أمر مخالف لدعوة الأنبياء والرسل -عليهم السلام- الذين جاءوا بالإصلاح في الأرض، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله -عز وجل-، وجاءوا ليسعدوا الناس، ولينشروا الخير بينهم، والفلاح والصلاح، والإفساد في الأرض له ضرر عظيم على البلاد والعباد، لذا جاءت الآيات في كتاب الله -عز وجل- بالتحذير من الإفساد في الأرض. وقد تواترت النصوص الشرعية في الكتاب والسُّنة في الحديث عن الفاسدين والمفسدين ، وبيان صفاتهم وأماراتهم؛ ليكون الناس على بيِّنة من أمرهم؛ فيحذروهم ويدركوا العقلية المنحرِفة والموازين المضطرِبة التي يتعامل بها أولئك المفسدون مع غيرهم.
وقد تكاثر هؤلاء المفسدون في عصرنا الحاضر، وتعدَّدت راياتهم، وتفننوا في ابتكار صنوف الفساد والإفساد في كل الميادين، وكان وجودهم من الأسباب الرئيسية لتخلُّف الأمة وتردِّي مكانتِها؛ من أجل ذلك كان من الواجب علينا أن نتدارس صفاتهم بيانًا للحقيقة، وإيقاظًا للأمة، وتحذيرًا من تغوُّل المفسدين وطغيانهم في البلاد.
أيها المسلمون
ومن أبرز صفات المفسدين ، وصور إفساد هم في الأرض : الشرك بالله -عز وجل- فعبادة غير الله -عز وجل-، والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والدعوة للقبور والمزارات أن تعبد من دون الله -عز وجل-، وأن تُشَدَّ الرحال إليها، والتوكل عليها، والاستعانة بها ، والحلف بها، كل هذا من الإفساد في الأرض. ومن صور الفساد في الأرض : النفاق : فالنِّـفاق إفساد في الأرض . قال الله تبارك وتعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) البقرة 11 ، 12 ومن صور الفساد في الأرض : تكذيب الرسل ، ورد الحق برغم الإيقان به . قال الله تبارك وتعالى عن آل فرعون : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) النمل 14، ومن صور الفساد في الأرض : نشر البدعة: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حَذَّرَ من الابتداع في الدين، فقال في حديث عائشة -رضي الله عنها- عنه -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» رواه مسلم . ومن صور الفساد في الأرض : نشر المنكرات والدعوة إليها: فنشر الفاحشة بين الناس، وتحبيبهم لها، وتذليل الصعوبات التي تواجهها ،كل ذلك من صور الفساد ، قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود : 116]، ومن صور الفساد في الأرض : السحر: فالسحر سمى الله -عز وجل- فاعله مفسدًا فقال تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} [يونس : 81]، كما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن السحر، وبين أنه من السبع الموبقات فقال -صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ» رواه البخاري . ومن صور الفساد في الأرض : قتل النفس التي حرم الله ، فمن أعظم الحرمات الاعتداء على حرمة المؤمن، فإنه حرمته من أعظم الحرمات، وهي أعظم من حرمة البيت الحرام، يقول ابن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وهو ينظر إلى الكعبة: “مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ” فقتل الأنفس المعصومة من كبائر الذنوب، ومن الإفساد في الأرض، ومن صور الفساد في الأرض : بخس الموازين والتطفيف بالكيل إفساد . قال الله تبارك وتعالى على لسان شعيب : ( فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ) الأعراف 85، ومن صور الفساد في الأرض : التقاطع في الأرحام وعدم وصلها . قال الله تبارك وتعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) محمد 22، ومن صور الفساد في الأرض : نقض العهد ، وعدم الوفاء به ، وقطع ما أمر الله به أن يُوصل . قال الله تبارك وتعالى : ( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) البقرة 27 ،
ومن صور الفساد في الأرض : إيقاد نيران الحروب بين عباد الله . واليهود هم أهل هذا التخصص . قال الله تبارك وتعالى : ( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) المائدة 64،
ومن صور الفساد في الأرض : العلو والاستكبار في الأرض : فالعلو والطغيان والاستكبار في الأرض صفات ملازمة للمفسدين، كما قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ، ومن صور الفساد في الأرض : زخرفة القول بالباطل : فالمفسدون يعرفون بحلاوة اللسان وزخرفة القول بالباطل، ليخدعوا الناس، ويلبِّسوا عليهم بتغيير الحقيقة ونكران الواقع، وادِّعاء الرأفة والرحمة بالخلق كما في قوله تعالى على لسان فرعون : {إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
ومن صور الفساد في الأرض : الصدُّ عن سبيل الله : فحال المفسدين الذين يُزيِّنون للناس الباطل ويصدونهم عن سبيل الحق، كمثل قطَّاع الطرق الذين يعترِضون سبيل الناس ويسعون في الأرض فسادًا. قال تعالى في وصف هؤلاء المفسدين: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:86]، وطرائق المفسدين في الصدِّ عن سبيل الله تعالى تتنوَّع وتتجدَّد بتجدُّدِ الأماكن والأزمان ، ويجمعهم وصف الله لهم في قوله جل شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [لقمان:6]، وكذلك وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا » (أخرجه البخاري ومسلم ). ومن صور الفساد في الأرض : الغِش والخيانة : فغِش الأمة وخيانتها صفة ملازمة للمفسدين في جميع العصور والأمكنة؛ لأنهم لا أمانة لهم. ولهذا تراهم يتساقطون في دركات الخيانة وغِش الأمة والمجتمع، لتحقيق مصالح شخصية مزعومة، وما أسهل أن يبيع المفسد دينه ويخون أمته! ، ومن صور الفساد في الأرض : انقلاب الموازين : فمن مخازي المفسدين وسوءاتهم أنهم يقِلبون الموازين، ويزيفون الحقائق، ويُسمُّون الأمور بغير مسمياتها؛ ولهذا قال الله عز وجل في وصفهم: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة:11-12]، وهذا من تقليب الأمور الذي جاء بيانه في قوله تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} [التوبة:48]. ومن صور الفساد في الأرض : السرقة . قال جلا وعلا عن إخوة يوسف : ( قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ) يوسف 73،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( المفسدون في الأرض )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
كانت هذه بعض صفات المفسدين، عبر التاريخ الماضي أو الحاضر، أيًا كانت مواقعهم، فسنجد اجتماع المفسدين على التخلُّق بهذه الصفات المذمومة، ليصدُق عليهم قول الله جل شأنه: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53].
ولقد سقطت البلاد العربية والاسلامية في مستنقعات الفساد، واستضعَف المفسِدون شعوبهم؛ فأسرفوا في التعدي على حرمات الدين وحقوق المجتمع وكرامة الإنسان، وتحوَّل الفساد في الكثير منها من ممارسات شاذة محدودة لبعض الناس إلى مؤسسات مشروعة ، وأماكن مألوفة ترعاها الحكومات ولهذا كان واجب المصلحين حقًا أن يواجهوا أولئك السفهاء، ويأخذوا على أيديهم، ويبصِّروا المجتمع بمخازيهم، امتثالًا لقول الله جل وعلا: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} هود :116 ، وقوله سبحانه: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء :152].
أيها المسلمون
أما عن جزاء المفسدين في الأرض فقد بَيَّنَه الله -عز وجل- لنا في كتابه فقال -جل وعلا-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة : 33 ] هذا هو جزاء من أفسد في الأرض التي أمر الله -جل وعلا- بإعمارها بطاعته -جل وعلا-، والانشغال بذكره -جل وعلا-.
الدعاء