خطبة عن (الْمُجَادِلَةُ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ)
فبراير 10, 2024خطبة عن (صبراً أهل غزة فَإِنَّ مَوْعِدكُم الْجَنّةُ)
فبراير 12, 2024الخطبة الأولى (النظرة المحرمة)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (36) الاسراء، وفي سنن أبي داود: (عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِعَلِىٍّ «يَا عَلِيُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ».
إخوة الإسلام
لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما يحرم عليهم، فلا ينظروا إلا لما أباح الله لهم النظر إليه، فقال الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور: 30، 31]. وليس المقصود أن يغض الرجل بصره عن كل امرأة، كلا، بل يجوز له أن ينظر إلى زوجته، وإلى محارمه، فيما جاء الشرع بجواز النظر إليه من المحارم كالوجه، والشعر، والذراعين، والقدمين، ونحو ذلك. وفي بعض الحالات الضرورية فقد يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية، مثل نظر الخاطب إلى المخطوبة، ونظر الشاهد، والقاضي، والطبيب الرجل إلى المرأة التي لم تجد طبيبة تداويها.
وأمر الله النساء أيضا أن يغضضن من أبصارهن، فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة، أو الهاتفة المثيرة؛ لكي تستثير الفتنة من صدور الرجال. فنظرات المرأة لها معنى عند الرجال، بل إن بعض نظرات النساء قد تكون أشد إغراءً من منظرها، ولذلك، فالمرأة أيضاً تغض من بصرها؛ ولا تفتن الرجال بحركات عينيها، قال تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) [النور: 31].
وليكن معلوما أن غض البصر من جانب الرجال هو أدب للنفس، ومحاولة للاستعلاء على رغبة الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام، كما أن فيه إغلاقاً للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية، ومحاولة للحيلولة دون وصول السهم المسموم، وقال أهل العلم: في قوله تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر:19]. قالوا: هي اختلاس النظر إلى من يحرم نظره، من غير إرادة أن يفطن إليه أحد”، وعن ابن عباس قال عن خائنة الأعين: “الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فيريهم أنه يغص بصره عنها، فيطرق إلى الأرض مثلاً، فإن رأى منهم غفلة نظر إليها”، وهذا ما يفعله بعض من في قلوبهم شيء من النفاق، وفي صحيح البخاري: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، وَيُكَذِّبُهُ»، وقد حرص رسول الله ﷺ إلى كشف هذه المسألة، والتنصيص عليها للذين يجلسون في الطرقات، لكثرة ما يحدث للجالسين في الطرقات من التعرض للنظر للرائحات والغاديات. ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ». فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا. فَقَالَ «إِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ». قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ»، وفي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ «نَعَمْ». وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ)، وفي رواية لأحمد: (قَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَصْرِفُ وَجْهَ ابْنِ أَخِيكَ قَالَ «إِنِّي رَأَيْتُ غُلاَما شَابًّا وَجَارِيَةً شَابَّةً فَخَشِيتُ عَلَيْهِمَا الشَّيْطَانَ».
أيها المسلمون
إن اطلاق البصر لهو سبب لأعظم الفتن، فكم فسد بسبب النظر من عابد، وكم انتكس بسببه من شباب وفتيات كانوا طائعين، وكم وقع بسببه أناس في الزنى والفاحشة، فالعين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره، غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق العبد بصره، أطلق القلب شهوته وإرادته، ونقش فيه صور تلك المبصرات، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه في الدار الآخرة. ولما كان إطلاق البصر سببا لوقوع الهوى في القلب، أمر الشارع بغض البصر عما يخاف عواقبه، فكل الحوادث مبدؤها النظر، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر، تكون نظرة.. ثم خاطرة.. ثم خطوة.. ثم خطيئة، ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: (اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات). وفي الصحيحين: (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ – رضي الله عنهما – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ»، وفي صحيح ابن حبان ومسند أحمد: (قَالَ جَرِيرٌ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي). وفي الحديث المتقدم: « يَا عَلِيُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ».
أيها المسلمون
ولغض البصر عن المحرمات فوئد كثيرة: فمن فوائد غض البصر: تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته. ومن الفوائد: أنه يورث القلب نورا وإشراقا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، ومن الفوائد: أنه يورث صحة الفراسة، فإنها من النور وثمراته، قال شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال- لم تخطئ فراسته. ومن الفوائد: أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه, وذلك بسبب نور القلب، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، ومن الفوائد: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، قال بعض الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله. ومن الفوائد: أنه يورث القلب سرورا وفرحة وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، فلذة العفة أعظم من لذة الذنب. ومن الفوائد: أنه يخلص القلب من أسر الشهوة، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه، ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه، وسامه سوء العذاب، ومن الفوائد: أنه يسد عن العبد بابا من أبواب جهنم، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفاحشة، فمتى غض بصره سلم من الوقوع في الفاحشة، ومن الفوائد: أنه يقوي العقل ويزيده ويثبته، فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته للعواقب، ومن الفوائد: أنه يخلص القلب من ذكر الشهوة ورقدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار والآخرة، ويوقع في سكرة العشق. ومن الفوائد: أنه يورث محبة الله، قال الحسن بن مجاهد: (غض البصر عن محارم الله يورث حب الله). ويورث الحكمة، ويفرغ القلب للتفكر في مصالحه والاشتغال بما ينجيه يوم القيامة.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (النظرة المحرمة)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
واعلم أخي المسلم وأختي المسلمة: أن النظر إلى المحرمات له عواقب وخيمة، ومنها: أنه يورث الحسرات والزفرات، والألم الشديد، فيرى العبد ما ليس قادرا عليه، ولا صابرا عنه، وهذا من أعظم العذاب، ومن عقوبات النظر إلى المحرمات: فساد القلب: فالنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، فهي بمنزلة الشرارة من النار، ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله، أحرقت بعضه. ومن عقوبات النظر إلى المحرمات: نسيان العلم: فقد قيل: أنه نسي أحد العباد القرآن بسبب نظرة إلى غلام نصراني ومن عقوبات النظر إلى المحرمات: نزول البلاء: قال عمرو بن مرة: نظرت إلى امرأة فأعجبتني، فكف بصري، فأرجو أن يكون ذلك جزائي. ومن عقوبات النظر إلى المحرمات: إبطال الطاعات: فعن حذيفة قال: من تأمل خلق امرأة من وراء الثياب، فقد أبطل صومه، ومن عقوبات النظر إلى المحرمات: الغفلة عن الله، والدار الآخرة: فإن القلب إذا شغل بالمحرمات، أورثه ذلك كسلا عن ذكر الله، وملازمة الطاعات. ومن عقوبات النظر إلى المحرمات: إهدار الشارع عين من تعمد النظر في بيوت الناس متجسسا: ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ – صلى الله عليه وسلم – «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِعَصَاةٍ ،فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» .
الدعاء