خطبة عن (إياك وذنوب الخلوات)
أغسطس 9, 2023خطبة حول حديث ( مَنْ كَانَ مِنْكُمْ تَسُرُّهُ حَسَنَتُهُ وَتَسُوؤُهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ )
أغسطس 12, 2023الخطبة الأولى (النظر في عواقب الأمور ومآلاتها)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام مسلم في صحيحه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى». وروى الطبراني في الكبير، وأحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه: (عَنْ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ الْقُرَشِيِّ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو «اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ» قال ابن كثير في التفسير: وهذا حديث حسن
إخوة الإسلام
إن من خصائص الرسالة الإسلامية: النظر في عواقب الأمور ومآلاتها، فالنظر في المآلات معتبَرٌ ومقصود شرعًا، وهو أصل من أصول الفقه، ومِن الشواهد الشهيرة في السيرة النبوية، والتي تدل على هذا الأصل: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بناء الكعبة وهدمها، والحكمة مِن ترك إعادة بنائها، فقد ترك صلى الله عليه وسلم شيئًا من المصالح الشرعية، خشية ما قد يؤول إليه الأمر من مفاسد أعظم، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عائِشَةُ، لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَديثُو عَهْدٍ بشِرْكٍ، لَهَدَمْتُ الكَعْبَةَ، فألْزَقْتُها بالأرْضِ ،وجَعَلْتُ لها بابَيْنِ: بابًا شَرْقِيًّا، وبابًا غَرْبِيًّا، وزِدْتُ فيها سِتَّةَ أذْرُعٍ مِنَ الحِجْرِ، فإنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْها حَيْثُ بَنَتِ الكَعْبَةَ) (رواه مسلم).
فالتفكر في عواقب الأمور من صفات العقلاء؛ فكثيرٌ من الأمور لا يمكن أن تحكم عليها ببداياتها، بل بنهاياتها؛ لأن الشيء ربما يكون خيرًا في أوله، ولكنه يكون شرًّا في آخره، وقد يكون العكس؛ ولذلك لا بد للإنسان من أن يتدبر أمره، في كلِّ ما يريد القيام به، قبل أن يبدأ بالعمل، ليعرف مداخل الأمور ومخارجها، ومصادر الأمور ومواردها، وليعرف النتائج السلبية أو الإيجابية الناجمة عن القيام بهذا العمل أو ذاك.
فالمطلوب التأني في حركتنا ومواقفنا، بعيدًا عن الارتجالية؛ كي نضمن سلامة ما نقوم به، أو نفكّر فيه، فالمؤمن يدرس الأُمور بعمق ويتدبِّرها، ولا يكون شخصًا عاطفيًّا تحرِّكه الانفعالات واللافتات والشعارات من هنا أو هناك، فالقرارات الحكيمة والمواقف الصائبة، هي التي تُبنَى على رويَّة تامة، ورؤية ثاقبة، واعتبار لمآلاتها وعواقبها. ولذلك كان مما جاء في دعاء الاستخارة قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: (اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي – أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ – فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي – أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ – فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي)،
أيها المسلمون
ومن أقوال السلف الصالح في النظر في عواقب الأمور: قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه”، فالعاقل إذا أراد أن يقول الكلمة في أي مجال، فإنه يتدبَّر الأمر، أي: أنه يستشير عقله قبل أن يقول كلمته، ليدرس العقلُ الكلمة في كل نتائجها، وفي كل سلبياتها وإيجابياتها، أما الأحمق فقلبه وراء لسانه، فإذا خطرت الكلمة في ذهنه قالها دون أن يدرس عواقبها ومآلاتها. وقال أيضًا رضي الله عنه: “مَن نظر في العواقب، أَمِن مِن النوائب”. وقال الشافعي رحمه الله: (صحة النظر في الأمور، نجاة من الغرور. والعزم في الرأي، سلامة من التفريط والندم. والروية والفكر، يكشفان عن الحزم والفطنة. ومشاورة الحكماء، ثبات في النفس، وقوة في البصيرة. ففكر قبل أن تعزم. وتدبر قبل أن تهجم. وشاور قبل أن تقدم)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): “مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم مَن كان معي فأنكرت عليه وقلتُ له: إنما حرَّم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال؛ فدعهم” (إعلام الموقعين لابن القيم).
فيعلمنا ابن تيمية رحمه الله مراعاة مآلات الأفعال؛ فإن كانت تؤدي إلى مطلوب فهي مطلوبة، وإن كانت لا تؤدي إلا إلى شر فهي منهي عنها، ويعلمنا أيضًا: أن الغاية من إنكار المنكر هي حدوث المعروف، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه فإنه لا يسوغ إنكاره.
وسُئِلَ أحد الحكماء عن الفرق بين العاقل والسفيه؟، فقال: كثير، ومنه: أن العاقل اللبيب يستفرغ فكره، ويتبصر الأمر قبل أن يباشره، والجاهل السفيه يستخف فكره ويتبصر الأمر بعد أن ينتهي منه. فعلى كل عاقل ان يتفكر في عواقب الأمور ومآلاتها،
أيها المسلمون
المؤمن كيس فطن، ينظر إلى العواقب، فإذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يكن رشداً فأمضهِ ، وإن يكن غیاً فأنته عنه، ومن أمثلة النظر في عواقب الأمور: ما كان من موقف سحرة فرعون بعدما تبين لهم الحق، فسحرة فرعون هم الذين تحدوا موسى بسحرهم، وجاءوا بسحر عظيم، ولكن عندما رأوا عصا موسى تلقف ما يأفكون، وتأملوا في عاقبة الأمر، قالوا هذا ليس بسحر ،وإنما هي المعجزة، فأوصلهم تأملهم في العواقب إلى الإيمان والنجاة، وعندما هددهم فرعون بالقتل قالوا لا ضير، قال الله تعالى: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (45)، (51) الشعراء،
فالمؤمن لا يضع قدمهُ إلا في موضع صلب، ولا یُقدم إلا عند وضوح الرؤية، وينظر دائما أمامه، ويبصر عاقبة ما يقدم عليه، ولهذا، فلو نظر كل منا إلى عاقبة المعاصي، ومآلات الذنوب، ما أقدم عليها، ولأنتهى وأقلع وتاب ورجع، ففي صحيح البخاري: (عن عبد الله بن مسعود قال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ»،
ولو نظر كل منا إلى عاقبة الطاعات ومآلاها، لازداد منها، وحافظ عليها، وتحمل مصاعبها ومشاقها، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ». وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَجَاءَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ قَالَ فَوَعِزَّتِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لاَ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا. فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَيْهَا. فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (النظر في عواقب الأمور ومآلاتها)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وبعد التوكل على الله تعالى، والأخذ بالأسباب، وحرص المؤمن على اختيار الأفضل والأصوب في اتخاذ قراراته، ونظره في عواقب الأمور، لا بد له أن يؤمن أن الذي يعلم الخواتيم وعواقب الأمور ومآلاتها هو الله رب العالمين، قال الله تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (41) الحج، وقال تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (22) لقمان، وقال تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) (10) الروم، وقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) (8)، (9) الطلاق، وفي صحيح مسلم: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ نَظَرَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ فَقَالَ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا » . فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ . فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا»
الدعاء