خطبة حول حديث (اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ)
فبراير 25, 2023خطبة عن الصدقة وحديث (مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ)
فبراير 28, 2023الخطبة الأولى: النفقة على الولد وحديث (أَنْفِقِي وَلاَ تُحْصِي)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
في الصحيحين واللفظ لمسلم: (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَىَّ فَقَالَ «ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ وَلاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ». وفي رواية: (عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «أَنْفِقِي وَلاَ تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ».
إخوة الإسلام
ليكن معلوما لديكم أن إنفاق الرجل على أولاده الصغار حتى سِنِّ البُلوغِ، وكذا العجزة والمحتاجين منهم واجب شرعي في الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:233]. وقال الله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) [الطلاق:6]. وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ». وفي رواية أبي داود: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ». وفي صحيح البخاري: (قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – لِهِنْدَ «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»،
فهذه النصوص الشرعية وغيرها تدل على وجوب أن ينفق الرجل على أهل بيته، والقيام بمصالحهم، فلا يجوز للوالد التقصير في النفقة على أولاده الصغار، وأفتى العلماء بضرورة نفقته أيضا على الأولاد الكبار من العجزة والغير قادرين على الكسب، وكذا المُعسرين، إذا كان الوالدُ مُوسراً، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عن والد غني، وله ولد مُعسر، فهل يلزم الوالد الغني أن ينفق على ابنه المعسر؟، فأجاب: نعم، عليه نفقةُ ولدِهِ بالمعروف، إذا كان الولدُ فقيراً عاجزاً عن الكسب، والوالدُ مُوسراً)، كما ذهب أكثر العلماء: إلى أن الوالد يلزمه النفقة على ابنته حتى تتزوج، لعجزها عن التكسب، ولأن إلزامها بالتكسب يفضي إلى مفاسد عظيمة، واتفق العلماء: على أن الوالد لا تلزمه نفقة ولده الذي له مال يستغني به، ولو كان هذا الولد صغيراً، كما لا يجوز للمسلم أن يضيّع النفقة على أولاده بحجة أنه ينفق على غيرهم، ففي الصحيحين: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ – أَوْ خَيْرُ الصَّدَقَةِ – عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ».
وقد ثبتت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الحث على النفقة على الأهل، وأنها من الأعمال الصالحة عند الله تعالى، ففي صحيح البخاري: (عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ وَهْوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ »، وعن ابن عمر قال: (إنما سماهم الله أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقّاً كذلك لولدك عليك حقّاً)،
هذا ولا تجِبُ نَفَقةُ الوالِدِ على أبنائِه الذُّكورِ بعد سِنِّ البُلوغِ إذا كانت لهم القُدرةُ على التكَسُّبِ، ومن حقوق الأولاد التي ينبغي رعايتها أيضا: حق العدل بين الأولاد، وهذا الحق أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ». قَالَ لاَ. قَالَ «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلاَدِكُمْ». فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ).
أيها المسلمون
هذا ولا يجوز شرعًا أن تأخذ الزوجة شيئًا من أموال زوجها دون إذنه أو علمه، ما لم يكن شحيحًا، لا ينفق عليها أو على أولادهما بما يكفيهم، فإن كان كذلك جاز للزوجة أن تأخذ من مال زوجها بدون إذنه، بقدر ما يكفيها وأولادها بدون اسراف ولا تبذير، ففي الصحيحين واللفظ لمسلم: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لاَ يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِى بَنِيكِ».،
أما إذا كان الرجل ينفق على زوجته وولده ما يكفيهم، فلا يحق لزوجته أن تأخذ من ماله شيئًا بدون علمه؛ لأنها مؤتمنة على ماله، فالمرأةُ أَمينةٌ على مالِ زَوجِها، ومَسؤولةٌ عنه أمامَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وواجِبُها أنْ تَحفَظَه وتَرْعاهُ وتَأخُذَ منه قدْرَ حاجتِها، وتُنفِقَ منه بالمعروفِ. ففي الصحيحين 🙁عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهْىَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». قَالَ فَسَمِعْتُ هَؤُلاَءِ مِنَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ،
كما لا يجوز للزوجة أن تتصرف في مال زوجها بالصدقة وغيرها إلا بإذنه، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ «لاَ تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ الطَّعَامُ قَالَ «ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا»، ويستثنى من ذلك الشيء اليسير، الذي جرت العادة بالتسامح فيه، فهذا إن تصدقت المرأة به دون إذن من زوجها، كان لها نصف الأجر، ولزوجها النصف الآخر، ففي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا، غَيْرَ مُفْسِدَةٍ ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لاَ يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا»، وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تَصُمِ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ وَلاَ تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ». قال النووي (رحمه الله): وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ)، فمعناه: من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين, ويكون معها إذن عام سابق، متناول لهذا القدر، وغيره، وذلك الإذن الذي قد أولناه سابقًا، إما بالصريح، وإما بالعرف، ولا بد من هذا التأويل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفة، وفي رواية لأبي داود: (فلها نصف أجره)، ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح، ولا معروف من العرف، فلا أجر لها، بل عليها وزر، فتعين تأويله. واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير، يعلم رضا المالك به في العادة، فإن زاد على المتعارف، لم يجز، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها، غير مفسدة)، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة، ونبه بالطعام أيضًا على ذلك؛ لأنه يسمح به في العادة، بخلاف الدراهم، والدنانير، في حق أكثر الناس، وفي كثير من الأحوال. واعلم أن المراد بنفقة المرأة، والعبد، والخازن: النفقة على عيال صاحب المال، وغلمانه، ومصالحه، وقاصديه، من ضيف، وابن سبيل، ونحوهما، وكذلك صدقتهم المأذون فيها بالصريح، أو العرف.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية: النفقة على الولد وحديث (أَنْفِقِي وَلاَ تُحْصِي)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وأسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما) من الطراز الأول في الخلق الفاضل والسلوك النبيل؛ فقد كانت زوجة مثالية لزوج مثالي. فقد كانت تعينه في معاشه، وتصبر على شظف العيش معه، وكانت تسوس له فرسه، وتطحن له النوى، وتحمله إليه مسافات بعيدة لتعلفه به. ففي الصحيحين: (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ (رضي الله عنهما) قَالَتْ تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ، وَلاَ مَمْلُوكٍ، وَلاَ شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ، وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَسْتَقِى الْمَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ ،وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَلَى رَأْسِي، وَهْيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ «إِخْ إِخْ». لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ ،وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أَنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لأَرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ. فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَىَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ. قَالَتْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ يَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي)، وأسماء هي التي عُرفت بذات النطاقين؛ لأنها قسمت نطاقها قسمين ليلة أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها رضي الله عنه، فانتطقت بنصفه، وحملت لهما الطعام في نصفه الآخر، ففي البخاري: (فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِى بَكْرٍ قِطْعَةً مَنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقِ)، وكانت تأتيهما بالطعام وبأخبار قريش مدة مكثهما في الغار. ولها من المحامد ما سجله التاريخ في أنصع صفحاته، وسيرتها العطرة جديرة بالبحث والدراسة.
وفي هذا الحديثِ النبوي الذي تصدرت به الخطبة: تَحكي أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّها قالَت لرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ليس لي مالٌ إلَّا ما أدخَلَ علَيَّ زَوجي الزُّبيرُ بنُ العوَّام رَضيَ اللهُ عنه وصيَّرَه مِلكًا لي، بمعْنى: ما يَجعَلُه نَفقةً لي، فهلْ أتصَدَّقُ منه؟ فأجابَها صلَّى الله عليه وسلَّم: «تصَدَّقي، ولا تُوعي فيُوعَى علَيكِ»، والمعنى: لا تَدَّخِري المالَ وتُمسِكي عن إنفاقِه في سَبيلِ اللهِ والتَّصَدُّقِ منه؛ فيَكونَ ذلك سَببًا أنْ يَمنَعَ اللهُ عنكِ بَرَكتَه وزِيادتَه ونَماءَه. وفي رِوايةٍ عندَ البُخاريِّ ومُسلمٍ زِيادةُ قولِه: «وارْضَخِي ما استَطعْتِ»، فالنبي أذن لها في إعطاء القليل الذي يجود به النفس غالباً، ولا يعاتبها عليه زوجها إذا علم به، ولا يضر بمعاشه. وهي (رضي الله عنها) قد سألته عن الرضخ، فأذن لها فيه، ولو سألته عن الإعطاء مطلقاً لكان الجواب غير الجواب؛ لأن الزوجة لا يجوز لها أن تخرج من مال زوجها إلا بإذنه الصريح أو الضمني، والإذن الضمني ما قضى به العرف، وجرت به العادة.
والكرم شيمة من شيم العرب، ولا سيما قريش؛ فقد كانوا فيه مضرب الأمثال. والناس بعضهم لبعض أعوان لا غنى لأحدهم عن الآخر، فلا بد من الأخذ، ولا بد من العطاء. والإسلام دين الإخاء والمحبة والإيثار، فكان لزاماً أن يجود كل واحد على أخيه بشيء مما معه إلى الله، وتودداً إلى أخيه، ووقاية لنفسه من عذاب النار. وقد أمر الله بالبذل والإنفاق ولم يخص بالأمر الأغنياء دون الفقراء. وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): “اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ”. وقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بوصية ينبغي أن نوليها عناية في تعاملنا مع أسرنا وجيراننا وغيرهم، فقال لها: “وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ “. أي: لا تدخري ما عندك وتحبسيه عمن هو في حاجة إليه إذا زاد عن حاجتك “فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ” بأن يقطع عنك بسبب بخلك ما أنت في حاجة إليه؛ فالجزاء من جنس العمل. والكريم من شأنه أن يعطي العطاء بطيب نفس من غير أن يحصيه على من أعطاه. وبذلك يكون قريباً من الله قريباً من الجنة بعيداً عن النار. والمؤمن من يجود بما عنده لمن هو في حاجة إليه من غير توان ولا تقصير، ويغالب نفسه إن أبت عليه ذلك طاعة لله – عز وجل – وهذا ما تقتضيه أخوة الإيمان
الدعاء