خطبة عن (جُنْدُ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)
يوليو 8, 2025الخطبة الأولى (النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (27): (30) الفجر.
إخوة الإسلام
(النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ): هي إحدى درجات النَّفس الإنسانيَّة، التي ترتقي بأعمالِها من حال النَّفس الأمَّارة بالسوء، حتَّى تصل إلى مرتبة الاطمِئْنان، والطمأنينة: سكونٌ يُثْمر السَّكينة والأمن.
والنَّفْسُ المُطْمَئِنّة: هي النفس الراضية، فلا تفزع عند الملمات، ولا تصخب في المصائب، ولا تغالي في الفرح والبهجة، بل هي نفس ساكنة، تعرفت على حقيقة الدنيا وحجمها، فتعلقت بالآخرة.
والنَّفْسُ المُطْمَئِنّة: هي النفس المؤمنة، المطمئنة بثواب الله، رَضِيَتْ عَنْ اللَّه، وَرَضِيَ الله عَنْهَا، وأَمَرَ بِقَبْضِهَا، فَأَدْخَلَهَا الْجَنَّة، وَجَعَلَهَا مِنْ عِبَاده الصَّالِحِينَ، قال العلامة القرطبي: (النفس المطمئنة، أيقنت أن الله ربها، فأخبتت لذلك؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي المطمئنة بثواب الله، المؤمنة). وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلاَئِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا فَيَقُولُونَ: فُلاَنٌ. فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ)، وفي تفسير ابن كثير: (كان الصحابة وفيهم أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين جلوسًا عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقرأ قارئٌ قول الحق تبارك وتعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27-30]، فقال أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه: إنَّ هذا لحسنٌ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أما إنَّ الملَكَ سيقولُ لك هذا عند الموتِ»
والنَّفْسُ المُطْمَئِنّة: قال عنها (ابن القيم): هي: “نفسٌ قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى ما سواه، فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره، واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرِّضا به ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا، واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحسَبِهِ وضمانه، فاطمأنت بأنه وحده ربُّها وإلهها، ومعبودُها، ومليكُها، ومالكُ أمرها كله، وأن مرجعَها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين”.
أيها المسلمون
فبتلك الطمأنينةُ في النفس: تطيبُ الحياةُ وتزدان، ويطيف بها السرور وإن أصابتها الآلام، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28-29]؛ أي: يزول قلقُها واضطرابُها، وتحضرها أفراحها ولذاتها. قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد: (28)؛ أي: حقيق بها وحريٌّ ألَّا تطمئن لشيء سوى ذكره، فإنه لا شيء ألذ للقلوب، ولا أشهى، ولا أحلى، من محبةِ خالقها، والأنسِ به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له، يكون ذِكرُها له.
ولا تزال البشائرُ تتوالى على رحابِ تلك النفسِ المطمئنة، حتى تُبشر بالرضا من الله عليها، وبرضاها عن جزاء الله تعالى لها يوم الدين، وهي ترجع إلى الأجساد التي عمَّرتها بالعبادة، وألزمتها الاستقامة، وجمَّلتها بالتقوى في الدنيا، لتساق مع وفود المتقين إلى الرحمن وجنته، قال تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) (85) مريم، أي: ركبانا، وبعض العلماء يقول: (هم ركبان على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة)، وفي مسند أحمد: (قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ سَعْدٍ: (كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ عَلِىٍّ فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً) قَالَ لاَ وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشَرُونَ وَلاَ يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجِلِهِمْ وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ الْخَلاَئِقُ مِثْلَهَا عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ)، فإذا فتحت لهم أبواب الجنة جاءهم النداء: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (27): (30) الفجر.
والنَّفْسُ المُطْمَئِنّة: هي النفس التي تدفع صاحبها للعمل الصالح، والاستمرار عليه، وهي نفس المؤمن التقي، وهي تمثل الجانب المشرق للإنسان المؤمن الإيجابي، فمنها تنطلق الدمعة، حين نتدبر آية من آيات الله تعالى، ومنها تنطلق الرحمة من سويداء القلب، حين ترى معدمًا يستجدي القميص ليواري سوأته، أو اللقمة ليسد بها رمقه، يقول ابن القيم رحمه الله: “وأيد الله النفس المطمئنة بجنود عديدة، فجعل الملك قرينها، وصاحبها الذي يليها ويسددها، ويقذف فيها الحق، ويرغبها فيه، ويريها حسن صورته، ويزجرها عن الباطل، ويزهدها فيه، ويريها قبح صورته، وأمدها بما علمها من القرآن والأذكار وأعمال البر، وجعل وفود الخيرات، ومداد التوفيق تنتابها، وتصل إليها من كل ناحية، وكلما تلقتها بالقبول والشكر والحمد لله، ازداد مددها).
والنَّفْسُ المُطْمَئِنّة: هي نفسٌ قد لجأت إلى الله تعالى، واطمأنت إليه ورضيت عنه، فأثابها الكريم سبحانه بأبلغ ثواب، وأجزل عطاء، بما تُغْبَط عليه في الدنيا والآخرة.
والإنسان إذا وصل إلى مرحلة النفس المطمئنة، فلن يكون بمعزلٍ عن الخطايا؛ لأن كل بني آدم يعتريهم النقص والخطأ، فإذا سعيت للتحلي بصفــات أصحاب النفس المطمئنة، فستنال الاطمئنان النفسي في الدنيا، والراحة الأبدية في الآخـرة.
أيها المسلمون
أما عن صفات أصحاب النفس المطمئنة: فالصفة الأولى: الإخــلاص، وللإخلاص علامات: ومنها: أن يكون في عناية الله تعالى ومعيته، ومنها: بذل المجهود في الطاعة، فيكون حريصًا على إسرار الأعمال، إلا على ما ينبغي إظهاره، مثل: الصلاة والدعوة والجهاد. ومن صفات أصحاب النفس المطمئنة: الحرص الشديد على إصلاح العمل، وإتقانه وإحسانه ،لأنه يعيش لله لا لنفسه، فكل ما يفعله يبذله لوجه الله. ومن صفات أصحاب النفس المطمئنة: وجل القلب وخوفه من عدم القبول. ومن صفات أصحاب النفس المطمئنة: المتابعة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يتبع النبي حذو القُذة بالقُذة، حتى تطغى محبته للنبي على حب المال والولد وحتى النفس، وفي الصحيحين: (عن أنس قال: قال رسول الله ” لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ “، ومن علامة الإتباع: شدة الحرص على معرفة سُنَّتِهِ، وأحواله وسيـرته، والاقتداء به. ومن صفات أصحاب النفس المطمئنة: الرضا عن الله تعالى، فعندما يذوق طعم الإيمان يمر عليه البلاء وهو مطمئنٌ ساكنٌ هادئ، ففي صحيح مسلم: (عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا”،
ومن صفات أصحاب النفس المطمئنة: محبة الله تعالى وتعظيمه، فقد صُبِغَت حياته بصبغة جميلة ،من حسن الظن بالله تعالى، إذا ابتلاه يصبر ويرضى، وإذا أنعَمَ عليه يشكره ربِّه ويحمده على نِعَمهِ، فهو سبحانه ربٌّ ودودٌ، يتودد إلى عباده الصالحين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، ومن علامات محبتك لله تعالى: (الأنس بالله تعالى في الخلوة، والتلذذ بتلاوة كلام الله، وكثرة اللهج بذكر الله، وموافقة العبد ربَّه فيما يُحب ويكره.
ومن صفات أصحاب النفس المطمئنة: الصدق: فلن ينفعك في التعامل مع الله سوى الصدق، والصدق هو ما يجعلك تعيش مطمئنًا، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ قَالَ قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ».
ومن صفات أصحاب النفس المطمئنة: التقوى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإحسان إلى عباد الله، والولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين، وحُسن الخُلُق.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
كلنا بالطبع نتمنى أن نكون من أصحاب النفوس المطمئنة، إلا أن تحقيق الأمنيات والأهداف لا يأتي بالتمني، ولكنه يُحصل بالمثابرة، والعمل الجاد، والتوصل إلى معرفة النفس، ووضعها في طريق النفس المطمئنة، وهذا يحصل بتوفيق من الله تعالى قبل كل شيء، وحين يصل الفرد إلى هذه المرحلة المتقدمة والراقية، يصبح من المؤسف، ومن المعيب، أن يشغلها بأمور دنيوية صغيرة وتافهة، فالإنسان خُلق ليعبد الله، ومن مهامه أن يكون خليفة في الأرض، بإذن الله تعالى، فليس من المنطق أن يترك من كُلِّف بالخلافة أمورَها الجوهرية ،وكلياتِها البالغة الأهمية، ويلهو ويلعب، وينشغل بالترف، وإشباع الغرائز،
ومن عرف حقيقة نفسه، يُصر على ألَّا يكون عبدًا عاديا، بل يكون عبدًا متميزًا، وفي سنن البيهقي: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ وَمَعَالِيَ الأَخْلاَقِ وَيَبْغَضُ سَفْسَافَهَا»،
وفي سنن ابن ماجه: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ لأَصْحَابِهِ «أَلاَ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لاَ خَطَرَ لَهَا هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلأْلأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدًا فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ». قَالُوا نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ».
وفي سنن الترمذي: (أن أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ».
الدعاء