خطبة عن قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
يناير 6, 2018خطبة عن ( مَعَ الإخْلاصِ وَالمخلصين )
يناير 13, 2018الخطبة الأولى ( الوجد الإيماني الصادق . والوجد الشيطاني الكاذب )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (2) الانفال ، وقال تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) 23 الزمر ، وفي الصحيحين : من حديثِ أنسِ بن مالك رضيَّ الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:(( ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ)
إخوة الإسلام
يظن بعض الناس أنه إذا شعر بحالة من الوجد والنشوة، وأحس بالسعادة ، بسبب عمل ما ، فإن هذا دليل على أنه يسير في الطريق الصحيح إلى الله ، وأن ما يشعر به من وجد وانبساط ،هو بسبب عمله الذي أمر الله به ، وأن عمله هذا يقربه من مولاه ، ويظن المرء أن هذا الشعور ، أو تلك الحالة من الوجد التي يحس بها ، إنما هي دليل على قوة وصدق إيمانه ، وصفاء نفسه ، ونقاء قلبه ، وسمو روحه ، لأنه يشعر بلذة ونشوة قد لا يجدها في وقت آخر ، وهذا الفهم فهم خاطئ ، فهناك وجد إيماني صادق ، وهناك أيضا وجد شيطاني كاذب ، وهناك وجد مشروع ، ووجد محرم ممنوع ، وهناك وجد إيماني رحماني ، وهناك وجد شيطاني ، وعلى المسلم أن يفرق بين الحالتين ، فالوجد الايماني الصادق دليل على صدق الايمان ، وصحة الطريق في السير إلى الملك الديان ، وأما الوجد الشيطاني الكاذب فهو من تلبيس إبليس ، ودليل على البعد عن طريق الرحمن ، وتعالوا بنا اليوم إن شاء الله نتعرف على الحالتين حتى نفرق بينهما : فأما حالة الوجد الإيماني الصادق : فهي مشاعر تغمرُ القلب ، وأحاسيس يجدها المؤمن حين تصفو نفسه ، ويرق قلبه ، وتسمو روحه ، متأثرا بتدبر آية من القرآن، أو دعاء صادر من القلب والجنان ، أو متأثرا بمعنى من أحاديث خير الأنام ، أو متفكرا في عظمة الرحمن ، أو متأملا في قدرة الديان ، وقد يجد المؤمن هذا الشعور بالوجد وهو يعطفُ على المساكين والفقراء، أو يمسح على رؤوس الأيتام ،أو يجدها وهو يغيثُ الملهوفين ، أو يفرج عن المكروبين ، أو وهو يسعد المحزونين ، وهذه الحالة من الوجد هي إحدى معاني قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : (عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : « ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ». فالقلب إذا انصرفَ عن الدنيا, والتفتَ إلى الله عزّ وجل, فمن ثِمار ذلك حب الله ، ومحبة طاعته ، والأنس به , والشعور بالوجد والانبساط حال خلوته بربه ،وفي الصحيحين واللفظ لمسلم : (عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ أَنْ يُلْقَى فِى النَّارِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ فِى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ ». فالوجد الإيماني الصادق هو مشاعر تغمرُ القلب المؤمن ، الصادق في إيمانه ، لتكون دافعاً حثيثاً لمتابعة الطريق ، ومواصلة السير إلى الله ، فهذا الوجد ، وهذا التأجج القلبي ، وهذه السعادة القلبية ، وهذا الحال ، هو الذي يُسعِدُ الإنسان ويدفعُه قُدُماً في طريق الإيمان . ففي الدين الاسلامي مشاعر مُسعِدة, وهذه المشاعر المُسعِدة هي بمثابة المُحرك في طريق الإيمان, فإذا ضَعُفت هذه المشاعر أو تلاشت, أصبحَ الدينُ ثقافةً، ومعلومات، وأفكارا، ومناقشات، كل ذلك بدون أحاسيس ، أو مشاعر فالوجد الايماني الصادق يعني : أن تقرأ القرآن فتُحِس بسعادة، أو تذكُر الله عزّ وجل فتُحِس بسعادة، أو تدعو الله دُعاءً صادِقاً حقيقيّاً في السجود, فتُحِس بسعادة ، وهكذا.. فالعبد المؤمن إذا اتصلَ بالله عزّ وجل ،من خِلال استقامتهِ على أمر الله، ومن خلال أعمالهِ الطيبة، فحينها يذوقُ طعمَ الإيمان، ويذوق حلاوة الإيمان، ويرى أنه ليسَ على سطح الأرض من هوَ أسعدُ منه، هذا فضلاً عن عقيدتهِ الصحيحة، فضلاً عن طاعتهِ لله، فضلاً عما ينتظره من نعيمٍ مُقيم ، فضلاً عن تنفيذهِ أوامِرَ الله، فضلاً عن تَخلُّقهِ بأخلاقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسير على طريقته ومنهجه .
أيها المسلمون
ومما يعين المسلم على الشعور بالوجد الايماني الصادق طرق وأسباب : ومنها : السماع ، والرؤيا ، والتفكّر . فأفعالُ اللهِ وآلاؤه ونعمه وعظمته حين تراها بعينك، وكتابهُ حين تتدبرهُ بِفِكرِك، والحقُ حين تسمعهُ بأُذُنِك, والدعاء حين يصدر من قلبك، كل ذلك يعينك على الشعور بحالة الوجد ، يقول أحدهم :
لهيب الوجد تظهره العيونُ .. وإن أخفاه ذو شجن يبينُ
يظنّ المرء أنّ الحبّ يُخفى .. وقد يبديه دمعٌ أو حنين
وأهل الوجد قد يروي جواهم .. شحوب الوجه أو سَغبٌ مكين
فأنساه الهيام لذيذ عيشٍ .. فصار الصّعْبُ سهلا أو يهون
كذا يا صاح يفعل كلّ حبّ .. لأنّ الحبّ إخلاصٌ ودين
ومن المعلوم لدينا جميعا ،أن قلوب الصحابة كانت أصفى القلوب ، ومع هذا فما كانوا يزيدون عند وجدهم على البكاء والخشوع ، فقد روى الترمذي بسند صحيح (عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا بَعْدَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ،ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ،وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ) ،هذا هو الوجد الإيماني الصادق ، وتلك هي بعض أسبابه المعينة عليه ، وهذه هي حال الصحابة وأفعالهم وتصرفاتهم حال وجدهم ،فماذا عن الوجد الشيطاني الكاذب؟ وماذا عن أسبابه المعينة عليه؟ ، وماذا عن حال هؤلاء عند وجدهم ؟ ، وما الذي يصدر منهم من أقوال وأفعال ؟
أيها المسلمون
إن الوجد الشيطاني الكاذب هو أحد طرق إبليس في غواية الناس ، والتلبيس عليهم ، وإبعادهم عن طريق الجادة، وهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، الوجد الشيطاني الكاذب هو عبارة عن حالة من الوجد ،تعتري بعض الناس عند سماعهم بعض الأشعار أو المديح ،أو عند ذكر مشايخهم ، أو عند سماع الغناء أو الحداء ، أو عند ذكر الأطلال ، وأحيانا عن ذكر الله ،أو سماع القرآن ، أو سماع سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وغيرها وغيرها، وتلهب مشاعر وجدهم دقات الطبول والدفوف والألحان من الأعواد (والناي) وغيرها من الآلات الموسيقية الحديثة ، فتراهم يقفزون ، ويتمايلون ،ويصيحون ويتخبطون ويصرخون ويصفقون ، وقد يخلعون ثيابهم ويصبحوا عرايا، ويتكلمون بكلام غير مفهوم ، ويأتون بحركات هستيرية ، وقد يتشنجون ، أو يصعقون ، أو يضحكون أو يبكون ، وتراهم وقد تغيرت أحوالهم ، وصورهم وأشكالهم ، وكلامهم وأفعالهم ، وهذا هو الوجد عندهم ؟؟؟؟ إن ما يفعله هؤلاء يخرج عن الاعتدال ،وتتنزه عن مثله العقلاء ، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت الحرام من التصدية ،وهي التي ذمهم الله تعالى بها ، فقال تعالى : { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} الانفال 35، فالمكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق وما يفعله هؤلاء بحجة الوجد لهو شيء يزري بالعقل والوقار، ويخرج عن سمت الحلم والأدب عند المسلم ، وما أقبح من ذي لحية يرقص ، فكيف إذا كانت شيبة ترقص وتصفق على وقاع الألحان والقضبان ،خصوصا إذا كانت أصوات نسوان ومردان ؟؟؟؟وهل يحسن هذا بمن بين يديه الموت ،والسؤال ،والحشر ،والصراط ،ثم هو إلى إحدى الدارين صائر، ان يشمس بالرقص شمس البهائم ، ويصفق تصفيق النسوة
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الوجد الإيماني الصادق . والوجد الشيطاني الكاذب )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن الملاحظ أن الفرق بين الوجد الايماني الصادق ، والوجد الشيطاني الكاذب ، يتبين لنا جليا من خلال وسائله المعينة عليه ، وكذا طرق التعبير عن حالة الوجد ، فالوجد الايماني الصادق أسبابه ووسائله ( سماع القرآن ، والمواعظ ،والذكر، والتفكر والتدبر، وكذلك عمل الصالحات : من صوم ،وصلاة ،وحج ،وغيرها من أعمال البر، التي حث عليها الدين ) ، هذه هي بعض أسبابه ،وفي الوجد الايماني : يعبر المؤمن عن ذلك : بخشوع في القلب ،أو دمع في العين ، أو قشعريرة في الجلد ، أو بكاء ووجل ، دون أن يخرج عن المألوف ، فلا قفز والصراخ ، ولا تمايل ولا تصفيق ، ولا رقص ولا أنغام ، ولا اختلاط بين النساء والرجال ولا ……أما الوجد الشيطاني الكاذب : فأسبابه ووسائله ( سماع الشعر والمدح ، والسير ،وغالبا ما تصحبها الأعواد والأنغام ، والطبول والدفوف ، والتصفيق ، والصياح، و… ) ويعبرون عند حالة وجدهم بأفعال وأقوال تخالف الشرع والدين ، وما كان عليه السلف الصالح ، وذلك من ( قفز ،وصراخ ،وتمايل ،وتخبط ،وصياح ،وخلع للملابس ، وتمرغ في التراب وغيرها ،وغيرها مما قد سبق ذكره )
أيها المسلمون
وماذا قال السلف الصالح عن وجد هؤلاء المفتونين المخدوعين ، الذين تلاعب بهم الشيطان والأهواء ، فأرداهم في طريق المضلين : فعن قتادة قال: قيل لأنس بن مالك: إن أناسا إذا قرئ عليهم القرآن يصعقون فقال: ذاك فعل الخوارج ، وبلغ عبد الله بن الزبير أن ابنه عامرا صحب قوما يتصعقون عند قراءة القرآن فقال له: يا عامر لأعرفن ما صحبت الذين يصعقون عند القرآن لأوسعك جلدا ، وعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: جئت إلى أبي فقال لي: أين كنت؟ فقلت: وجدت أقواما ما رأيت خيرا منهم ،يذكرون الله تعالى ،فيرعد أحدهم حتى يخشى عليه من خشية الله تعالى ، فقعدت معهم ،قال: لا تقعد معهم بعدها ،فرآني كأني لم يأخذ ذلك في فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن ،ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن ،ولا يصيبهم هذا، أفتراهم أخشع لله من أبي بكر وعمر، فرأيت أن ذلك كذلك فتركتهم . وعن أبي عيسى أو عيسى قال: ذهبت إلى عبد الله بن عمر ،فقال أبو السوار: يا أبا عبد الرحمن :إن قوما عندنا إذا قرئ عليهم القرآن يركض أحدهم من خشية الله ، قال: كذبت قال: بلى ورب هذه البنية قال: ويحك إن كنت صادقا فإن الشيطان ليدخل جوف أحدهم ،والله ما هكذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال الفضيل بن عياض لابنه وقد سقط: يا بني إن كنت صادقا لقد فضحت نفسك ، وإن كنت كاذبا فقد أهلكت نفسك .
الدعاء