خطبة عن (الهداية) مختصرة
أبريل 17, 2024خطبة عن (أهل الأعراف) مختصرة
أبريل 17, 2024الخطبة الأولى (الوفاء في حياة الرسول)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة:177].
إخوة الإسلام
الوفاء بالعهد والوعد، وأداء الحقوق لأصحابها، وعدم الغدر، كل ذلك من الأخلاق الفاضلة، والشمائل الطيبة، لذا كان الوفاء من صفات الأنبياء والمرسلين؛ فقال تعالى متحدِّثًا عن نبيه إسماعيل عليه السلام: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم:54]، وقال تعالى في إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم:37]. وكان خلق الوفاء مما تحلى به رسولنا صلى الله عليه وسلم، فتخلقه صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق الكريم ظاهر بيّن، سواء في تعامله مع ربه جل وعلا، أو في تعامله مع أزواجه وأهل بيته، أو مع أصحابه، أو مع أعدائه، فلن تجد في كتب التاريخ والسير رجلا يداني أو يضاهي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في كمال خُلقه، وعظمة شخصيته، وباهر وفائه، فهو خير البرية أقصاها وأدناها، وهو أبر بني الدنيا وأوفاها، وما وُجِدَ على الأرض أنقى سيرة وسريرة، وأوفى بوعد وعهدٍ منه صلى الله عليه وسلم،
ففي تعامله مع ربه: كان صلى الله عليه وسلم وفياً أميناً، فقام بالطاعة والعبادة خير قيام، وقام بتبليغ رسالة ربه بكل أمانة ووفاء، فبيّن للناس دين الله القويم، وهداهم إلى صراطه المستقيم، وفق ما جاءه من الله، وأمره به، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل:44). وفي سنن البيهقي: (عَنِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَلاَ تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ إِلاَّ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ»، وفي الصحيحين: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ. أَيُّ يَوْمٍ هَذَا». قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ. قَالَ «فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا». قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ. قَالَ «فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا». قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ. قَالَ «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا». فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ». وفيهما قال- صلى الله عليه وسلم -: (وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ ،إِلاَّ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِىَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ». ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ»، وفي صحيح مسلم: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ)
وكان صلى الله عليه وسلم وفياً مع زوجاته، فحفظ لخديجة رضي الله عنها مواقفها العظيمة، وبذلها السخي ،وعقلها الراجح، وتضحياتها المتعددة، حتى إنه لم يتزوج عليها في حياتها، وكان يذكرها بالخير بعد وفاتها، ويصل أقرباءها، ويحسن إلى صديقاتها، وهذا كله وفاءً لها رضي الله عنها. وفي مسند أحمد: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ – قَالَتْ – فَغِرْتُ يَوْماً فَقُلْتُ مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْراً مِنْهَا. قَالَ «مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ»، وفي صحيح البخاري: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي، لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلاَئِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ)، وفيه أيضا: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتِ اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، فَقَالَ «اللَّهُمَّ هَالَةَ». قَالَتْ فَغِرْتُ فَقُلْتُ مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا).
وكان صلى الله عليه وسلم وفياً لأقاربه، فلم ينس مواقف عمه أبي طالب من تربيته وهو في الثامنة من عمره، ورعايته له، فكان حريصاً على هدايته قبل موته، ويستغفر له بعد موته حتى نهي عن ذلك. ففي صحيح البخاري: (أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – لأَبِي طَالِبٍ «يَا عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ». فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «أَمَا وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ (مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ) الآيَةَ)
وكان صلى الله عليه وسلم وفيا لأصحابه، وموقفه مع الصحابي حاطب بن أبي بلتعة مع ما بدر منه حين أفشى سر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، في أشد المواقف خطورة خير دليل، ففي الصحيحين: (عن عَلِيِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ يَقُولُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا فَانْطَلَقْنَا تَتَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا هَلُمِّي الْكِتَابَ. فَقَالَتْ مَا عِنْدِي مِنْ كِتَابٍ. فَقُلْتُ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا هُوَ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «مَا هَذَا يَا حَاطِبُ ». فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ فَإِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَإِنَّ قُرَيْشًا لَهُمْ بِهَا قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ بِمَكَّةَ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي بِهَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بِي مِنْ كُفْرٍ وَلاَ ارْتِدَادٍ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « صَدَقَكُمْ». فَقَالَ عُمَرُ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». وفي سنن البيهقي: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَزُورًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ بِوَسْقِ تَمْرٍ عَجْوَةٍ فَطَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ أَهْلِهِ تَمْرًا فَلَمْ يَجِدْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلأَعْرَابِيِّ فَصَاحَ الأَعْرَابِيُّ: وَاغَدْرَاهُ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: بَلْ أَنْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَغْدَرُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً». فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ وَبَعَثَ بِالأَعْرَابِيِّ مَعَ الرَّسُولِ فَقَالَ :«قُلْ لَهَا إِنِّي ابْتَعْتُ هَذَا الْجَزُورَ مِنْ هَذَا الأَعْرَابِيِّ بِوَسْقِ تَمْرٍ عَجْوَةٍ فَلَمْ أَجِدْهُ عِنْدَ أَهْلِي فَأَسْلِفِينِي وَسْقَ تَمْرٍ عَجْوَةٍ لِهَذَا الأَعْرَابِيِّ ». فَلَمَّا قَبَضَ الأَعْرَابِيُّ حَقَّهُ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ :«قَبَضْتَ». قَالَ: نَعَمْ وَأَوْفَيْتَ وَأَطَبْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ الْمُوفُونَ الْمُطَيَّبُونَ». وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ».
ووَّفَّى ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار مبايعتهم له، ووقوفهم معه، فحينما خشي بعضهم إذا ظهر وانتصر أن يعود لقومه ويتركهم، تبسم صلى الله عليه وسلم: (وقَالَ «بَلِ الدَّمَ الدَّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ». رواه أحمد، وفي الصحيحين: (قَالَ «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ». فَسَكَتُوا فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ». قَالُوا بَلَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لأَخَذْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ»، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَلأَبْنَاءِ الأَنْصَارِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ».
بل كان صلى الله عليه وسلم وفيا مع الجمادات، فهذا جذع الشجرة الذي لا يعقل، كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب عليه، فلما تركه صاح الجذع، وفي لمسة وفاء، ينزل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويحتضنه ويضمه إليه حتى سكن، ففي صحيح البخاري: (أن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنهما – يَقُولُ كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ فَكَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ، وَكَانَ عَلَيْهِ فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ)، بل وإن وفاءه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصل للحجارة الصماء، ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الوفاء في حياة الرسول)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
أما وفاؤه لأعدائه فظاهر كما في صلح الحديبة، حيث كان ملتزماً بالشروط وفياً مع قريش، ففي صحيح البخاري: (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ – رضي الله عنهما – قَالَ صَالَحَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَعَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابِلٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ،وَلاَ يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ السَّيْفِ وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ. فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجُلُ فِي قُيُودِهِ فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ)، وفي صحيح مسلم: (قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي – حُسَيْلٌ – قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ «انْصَرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ».
وكان صلى الله عليه وسلم وفيا في بيعه وشرائه: ففي سنن ابي داود: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ بَايَعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِبَيْعٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ فَنَسِيتُ ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلاَثٍ فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ فَقَالَ «يَا فَتَى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَىَّ أَنَا هَا هُنَا مُنْذُ ثَلاَثٍ أَنْتَظِرُكَ». وفي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاء أَعْرَابِيٌّ يَتَقَاضَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعِيراً فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «الْتَمِسُوا لَهُ مِثْلَ سِنِّ بَعِيرِهِ». قَالَ فَالْتَمَسُوا لَهُ فَلَمْ يَجِدُوا إِلاَّ فَوْقَ سِنِّ بَعِيرِهِ. قَالَ «فَأَعْطُوهُ فَوْقَ بَعِيرِهِ». فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ أَوْفَيْتَنِي أَوْفَاكَ اللَّهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ خَيْرَكُمْ خَيْرُكُمْ قَضَاءً»
وقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم نقض العهد، وإخلاف الوعد، وعدم الوفاء، من علامات المنافقين، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»
هذه بعض صور الوفاء في حياة الرسول، وفاء النبي العظيم، فأَنْعِم به من خلق كريم، تعددت مجالاته، وتنوعت مظاهره، فكان لكل صنف من الناس نصيب من وفائه صلى الله عليه وسلم، ألا فتخلقوا بأخلاقه، وسيروا على طريقته، وكونوا من الأوفياء، لتنالوا خير الجزاء.
الدعاء