خطبة عن (تَجَاوز اللَّه عَن الْخَطَإ)
يوليو 5, 2025خطبة عن حديث (النَّصْر مَعَ الصَّبْرِ)
يوليو 5, 2025الخطبة الأولى (الوَعْدُ الحَسَنُ بالحياة الطيبة)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (61) القصص، وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (97) النحل.
إخوة الإسلام
الوعد الحسن: هو وعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة ونعيمها، فهم الذين سيظفرون بما وعدهم الله به لا محالة، لأنه وعد من رب كريم، صادق الوعد، لا يخلف الميعاد، فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيـرٌ وأبقَى لعباده المؤمنين؛ فعلَى المؤمنِ أَلا ينشغلَ بمتاعِ الحياةِ الدُّنيا الزائفِ، قَالَ تَعَالَى عَنْ نَعِيمِ الآخرَةِ: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الشورى:36]. لِذَا روى مسلم في صحيحه: (قَالَ رسول -صلى الله عليه وسلم: “وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ”. فَلَا ينشغلْ مؤمنٌ بهذَا المتاعِ الزائل، ولا يجعلْهُ غَايتَهُ، فَنِهَايَةُ نَعِيمِ الدُّنيا إِمَّا أَنْ يَتْرُكَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَتْرُكَهُ، وَعُمرُهُ مَرهونٌ بعمرِكَ، وَبِقَدْرِ نَشَاطِكَ وَحَرَكتِكَ.
فهلْ يستوِي مؤمنٌ ساعٍ للآخرةِ سعيَهَا، قَدْ عَملَ عَلَى وَعْدِ رَبِّهِ لَهُ بالثوابِ الـحسنِ، لينالَ جَنَّةً عرضُهَا كعرضِ السماوَاتِ والأرضِ، ومَا فيهَا مَنَ النَّعِيمِ المُقيمِ، فَهُوَ لاقِيهِ مِنْ غَيرِ شَكٍّ ولا ارتيابٍ، مَعَ عَاصٍ للهِ؟، لا واللهِ لَا يَستوونَ، فَلا يعِي ذلكَ إِلا أصحابُ العقولِ، الذينَ يَزِنُونَ الأمورَ بعقولِهِمْ، وهُمْ يعلمُونَ أَنَّ مَا هُمْ فيهِ مِنَ الأمنِ والرزقِ، ليسَ هُوَ الغاية المطلوبة؛ فالدُّنيَا حقيرةٌ، ومتاعُهَا قليلٌ،
لقدْ وعدَ اللهُ عبادَهُ المؤمنين المتقين وعدًا حسنًا؛ وعدهم بالحياة الطيبة، فالمؤمن يطيب قلبه بالإيمان، ويطيب لسانه بذكر الرحمن، وتطيب حياته بالعمل الصالح والإحسان، قال تعالى: (إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (95): (97) النحل، فالحياة الطيبة شعور نفسي، مصدره قوة صلة العبد بربه، والاطمئنان بقربه، الحياة الطيبة هي الفوز بمشاعر الأمن والسكينة والرضا، وليست كثرة العرض، والحظ الوفير من متاع الدنيا، ولهَذَا كان وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ آمن وعَمِلَ صَالِحًا، بِأَنْ يُحْيِيَهُ اللَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَجْزِيَهُ بِأَحْسَنِ مَا عَمِلَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وقد جعل الله تعالى للحياة الطيبة أسبابا، ومنها: الإيمان: فالإيمان بالله، والرضا بقضائه، والتسليم لأمره، هو الذي يجعل للوجود معنى، وللحياة طعما، وللإنسان قيمة، وبه يعرف الإنسان غاية وجوده، وسر خلقه.. فالإيمان هو أساس طيب النفس، وطيب الحياة، وذلك ينبع من نفحات الإيمان بالله، والرضا عن أقداره، والثقة به، والتوكل عليه، يقول تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} التغابن: (11)، فالإيمان يملأ القلب رضا وطمأنينة، ورجاء، وأملا، فيجد حلاوة ذلك في قلبه، وتظهر آثاره في سلوكه، وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». فالحياة الطيبة تكون في الاتصال بالله، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضا والبركة، وسكن البيوت، ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح، وآثاره في النفس وفي الحياة،
فعلى المسلم الذي يريد أن يحيا حياة طيبة أن يتعلق قلبه بالله وحده، وأن يتوكل على الله في كل شأنه، وأن يقنع بما قسم الله له، وأن يكون راضيا عن أقدار الله كلها، وأن يكون ذا نية طيبة، يحب الخير للناس، ومتسامح، قوله طيب، وعمله طيب، وماله طيب، ولا يأكل إلا طيبا، وأن يختار عند زواجه المرأة الطيبة العفيفة، لتكوين الأسرة الطيبة، وأن يكون طيب الأخلاق، وألا يصحب إلا الطيبين.
وما طابت الدنيا إلا بذكر الله، ولا الآخرة إلا بعفوه، ولا الجنة إلا برؤيته، ومن عاش طيبا توفاه الله طيبا، وأدخله دار الطيبين، قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (32) النحل، وفي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلاَئِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ – قَالَ – فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ مَنْ هَذَا فَيُقَالُ فُلاَنٌ. فَيَقُولُونَ مَرْحَباً بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ – قَالَ – فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ التَّي فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ)،
وفي القبر يأتيه عمله الصالح في صورة رَجُل حَسَن الْوَجْهِ حَسَن الثِّيَابِ طَيِّب الرِّيحِ، ففي مسند أحمد: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنَ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ دِينِيَ الإِسْلاَمُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. فَيَقُولاَنِ لَهُ وَمَا عِلْمُكَ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ. فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى الْجَنَّةِ – قَالَ – فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ – قَالَ – وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِى كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي).
وعند دخول الجنة تبشرهم الملائكة، قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (73): (74) الزمر، فكن طيبا، تطيب لك الحياة، ويسخر الله لك الطيبين من عباده، وتسكن في الآخرة دار الطيب والطيبين.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الوَعْدُ الحَسَنُ بالحياة الطيبة)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
اعلموا أن الحياة الطيبة حياتان: حياةٌ في الدنيا، وحياةٌ في الآخرة، وتحقيق الحياة الطيبة في الدنيا، هو موصلٌ إلى تحقيق الحياة الطيبة في الآخرة، فينبغي على المسلم أن يحققها في الدنيا وصولاً إلى هذه الحياة الطيبة في الآخرة، وذلك بالإيمان وذكر الله سبحانه وتعالى، وأفضل الذكر قراءة القرآن، وأداء الفرائض والسنن، والدعاء، وحسن المعاملات وطيب الأخلاق، وفي وصف أولياء الله تعالى يقول سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (15): (17) السجدة، فقُرَّة الأعين ليست فقط فيما أعده الله لأوليائه في الآخرة، بل ثمة ما تقرُّ به أعين أوليائه في الدنيا، وهو الذي جعلهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع، الله -عزَّ وجلَّ- وجعلهم يهبُّون في أحلى ساعات النوم، وأحلى لحظات الخلود إلى الفُرُش، إنه شيءٌ وجدوه في قلوبهم من لذَّةِ مناجاة مولاهم جلَّ في علاه.
الدعاء