خطبة عن حل المشكلات الزوجية وحديث (أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ. قُمْ أَبَا تُرَابٍ)
نوفمبر 28, 2023خطبة عن (المحن والابتلاءات كاشفة فاضحة)
نوفمبر 30, 2023الخطبة الأولى (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (82): (86) المائدة
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع هذه الآيات المباركات من كتاب الله العزيز، نتلوها، ونتدبرها، ونرتوي من معينها الصافي، ونرتشف من رحيقها المختوم، وبداية فقد جاء في تفسير (الوسيط لطنطاوي) (أن المعنى العام لهذه الآيات: (يا محمد إنك عند مخالطتك للناس ودعوتهم إلى الدين الحق، ستجد أشدهم عداوة لك ولأتباعك فريقين منهم: وهما اليهود والذين أشركوا، لأن عداوتهم منشؤها الحقد والحسد، والعناد والغرور. وهذه الرذائل متى تمكنت في النفس حالت بينها وبين الهداية والإيمان بالحق…ووصفهم- سبحانه- بذلك لشدة كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وقربهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء…ولتجدن يا محمد أقرب الناس مودة لك ولأتباعك الذين قالوا إنا نصارى، وذلك لأن منهم القسيسين الذين يرغبون في طلب العلم، ويرشدون غيرهم إليه، ومنهم الرهبان الذين تفرغوا لعبادة الله، وانصرفوا عن ملاذ الدنيا وشهواتهم، وأيضا فلأن هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى، من صفاتهم أنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق، والانقياد له إذا فهموه، أو أنهم متواضعون، وليسوا مغرورين أو متكبرين. وفي الآيات تعريض باليهود والمشركين، لأن غرورهم واستكبارهم جعلهم ينصرفون عن الحق، فاليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار، وأن النبوة يجب أن تكون فيهم، والمشركون يرون أن النبوة يجب أن تكون في أغنيائهم، وزعمائهم. وقد حملهم هذا الغرور على الكفر بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم وجدوا أكثر أتباعه من الفقراء). وقوله تعالى: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى): فالنصارى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام قريبون من المؤمنين، ولذلك أسلم منهم خلق كثير، وممن أسلم منهم ملك الحبشة، فإنه آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام، وأوى المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيواء يشكر عليه، ونسأل الله أن يثيبه عليه أتم الثواب، فهو آمن حتى وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه أخ للصحابة، وأنه صالح، ففي صحيح البخاري :(أن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنهما – يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «قَدْ تُوُفِّىَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنَ الْحَبَشِ فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ». قَالَ فَصَفَفْنَا فَصَلَّى النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عَلَيْهِ وَنَحْنُ صُفُوفٌ)، فوصفه صلى الله عليه وسلم بالصلاح والأخوة، وكذلك أسلم من النصارى الكثير، لأن النصارى أقرب عهدا بالرسالة من اليهود، فإنه ليس بين نبيهم عيسى عليه الصلاة والسلام وبين نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي، ففي الصحيحين: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ الأَنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ ». أيها المسلمون
ونسمع كثيرا من بعض المتكلمين والخطباء، يستشهدون بهذه الآيات المباركات بوجوب العلاقة الطيبة بين المسلمين ونصارى اليوم، وأن موالاتهم للنصارى جائزة، ونقول: (لقد نهى الله تعالى المؤمنين أن يوالوا اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، ولاء ود ومحبة وإخاء ونصرة، أو أن يتخذوهم بطانة، ولو كانوا غير محاربين للمسلمين، وقطع المودة والولاء بينهم ، فقال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المجادلة/ 22، فالمقصود بقوله تعالى :(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى): أن النصارى أقرب مودة للمؤمنين من اليهود والمشركين، ولا يعني ذلك مودتهم ومحبتهم والولاء لهم، بل كل ذلك منهي عنه، قال الإمام البغوي رحمه الله في تفسير الآية: ” لَمْ يُرِدْ بِهِ جَمِيعَ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ فِي عَدَاوَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ كَالْيَهُودِ فِي قَتْلِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَأَسْرِهِمْ وَتَخْرِيبِ بِلَادِهِمْ وَهَدْمِ مَسَاجِدِهِمْ وَإِحْرَاقِ مَصَاحِفِهِمْ، لَا وَلَاءَ، وَلَا كَرَامَةَ لَهُمْ، بَلِ الْآيَةُ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ مِثْلُ النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ)، نعم لم ينه الله تعالى المؤمنين عن مقابلة معروف الكفار، غير الحربيين، بالمعروف، أو تبادل المنافع المباحة معهم، من بيع وشراء وقبول الهدايا، قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الممتحنة/ 8، 9 ” أيها المسلمون
فقوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (83): (86) المائدة، فهذه الآيات لا يصح بحال من الأحوال أن يفصل آخرها عن أولها؛ لأنه لا يمكن أن يقال: إن هذه الآيات في عموم النصارى، بل هي فيمن أسلم منهم وكانت هذه صفته، وأما هؤلاء الذين لم يسلموا، سواء في هذا العصر، أو في غيره من العصور، فهم أشبه ما يكونون باليهود، حيث عرفوا الحق، وظهرت لهم دلائله، ومع ذلك عاندوا وكفروا، فهم أهل غضب، كما أنهم أهل ضلال، أي أنهم جمعوا بين الغضب والضلال، وهل بلاء المسلمين في هذه العصور وقبلها من العصور إلا من النصارى، كما أخبر النبي ﷺ بقوله كما في صحيح مسلم: (يُوشِكَ أَهْلُ الشَّأْمِ أَنْ لاَ يُجْبَى إِلَيْهِمْ دِينَارٌ وَلاَ مُدْىٌ. قُلْنَا مِنْ أَيْنَ ذَاكَ قَالَ مِنْ قِبَلِ الرُّومِ) والروم هم النصارى، فالحروب الصليبية مَن الذي قام بها خلال قرون متطاولة إلا النصارى؟، ومن الذين أقام دولة اليهود في فلسطين؟، ومن الذي يحميها، ومن الذي يمدها إلا النصارى؟ ، ومذابح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، من الذي يقوم بها إلا النصارى؟ والأذى الذي يلقاه المسلمون في كل مكان، من الذي وراءه إلا النصارى؟، فهؤلاء كفرة وأعداء لله ولرسوله ﷺ ولدينه، وكلهم قد بلغوا في الشر غايته، وإن كان لا يوجد في المكر والدس والإفساد في الأرض أسوأ من اليهود،
فهذه الآيات لا يقال أبداً: إنها تنطبق على عموم النصارى، وإنما من أسلم منهم، وأما من لم يسلم منهم فلا يمكن أن يقال فيه: إنه إذا سمع ما أنزل إلى الرسول فاضت عيناه من الدمع وقال: (ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين)، ومن يقتصر على أول الآيات ويترك آخرها، فهو كالذي يقتصر على قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ) [الماعون:4] ويترك ما بعدها، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه،
فالنصارى المعنيون في هذه الآيات، هم الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ،وما جاء به من الحق، فوصفهم الله تعالى بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف، فقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ) [المائدة:83] أي: مما عندهم من البشارة ببعثة محمد ﷺ، فيقول: (رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة:83] أي: مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به، وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ) الآية [آل عمران:199] وهم الذين قال الله فيهم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) [القصص:52-53] إلى قوله: (لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:55]. ولهذا قال تعالى هاهنا: (فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ) [المائدة:85] أي: فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) [المائدة:85] أي: ماكثين فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون (وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) [المائدة:85] أي: في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقد دل القرآن والسنة والإجماع على أن من دان بغير الإسلام فهو كافر، ودينه مردود عليه وهو في الآخرة من الخاسرين قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85]، وجاءت النصوص القاطعة بأن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، أو أشركوا مع الله غيره، أو جحدوا بنبوة نبي من الأنبياء أنهم كفرة، ولا يدفع عنهم الكفر إيمانهم أو التزامهم بكتبهم المحرفة، فلو آمنوا حقاً بالنبي والكتاب لآمنوا بجميع الأنبياء والرسل. قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:150:152]. وقال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (72): (73) المائدة، فكونهم أهل كتاب لا يمنع من كونهم كفاراً، كما نطق بذلك كتاب الله. وإباحة طعام أهل الكتاب لا ينافي الحكم بكفرهم، فإن الذي أباح طعامهم هو الذي حكم بكفرهم، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. وما جاء في القرآن الكريم من وعد النصارى أو اليهود بالجنة إنما هو للموحدين منهم، الذين آمنوا بنبيهم، ولم يشركوا بالله أحداً، ولم يدركوا بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. أما من اعتقد بألوهية عيسى أو بنوته لله، أو أعتقد أن الله فقير، أو يمسه اللغوب والتعب، فليس مؤمناً بالله حقيقة، ولهذا وصف القرآن أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فقال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة:29]، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»، وفي الصحيحين: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ . فَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ إِلاَّ يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ ، بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ وَغُبَّرَاتُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ، فَمَاذَا تَبْغُونَ فَقَالُوا عَطِشْنَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. فَيُشَارُ أَلاَ تَرِدُونَ، فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى، فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ. فَيُقَالُ لَهُمْ مَاذَا تَبْغُونَ فَكَذَلِكَ مِثْلَ الأَوَّلِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا، فَيُقَالُ مَاذَا تَنْتَظِرُونَ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ . قَالُوا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَفْقَرِ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ ، وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الَّذِى كُنَّا نَعْبُدُ . فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ ، فَيَقُولُونَ لاَ نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا »،
ومن أنكر كفر اليهود والنصارى أو شك في ذلك فهو كافر. قال القاضي عياض في كتابه الشفا: (ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو توقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك)
الدعاء