خطبة عن (مُجَاهدة النفس)
مايو 13, 2023خطبة عن (من أسباب صلاح الحال والبال)
مايو 14, 2023الخطبة الأولى (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (39) الاحزاب
إخوة الإسلام
في هذه الآية الكريمة يمدح الله تعالى الرسل السابقين، والمؤمنين الصادقين، الذين يبلغون دعوة الله تعالى ورسالاته، دون أن يخشوا أحدا سواه، وسيد الناس في هذا المقام – بل وفي كل مقام – هو نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم; ففي صحيح مسلم: (قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ .. (اجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي. ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ)، وفي سنن البيهقي: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَلاَ تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ إِلاَّ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ»، وفي صحيح مسلم: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ».
فالرسول صلى الله عليه وسلم قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع، والله تبارك وتعالى أخرج برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، وقد علم أمته كل خير، فحثهم إليه، ورغبهم فيه، وبين لهم كل شر، وحذرهم منه، فتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك،
ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه، رضي الله عنهم ، فقد بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسره وعلانيته، فأخذ الصحابة الكرام على عاتقهم دور الدعوة إلى الله وحمل رسالة الحق ونشرها في كافة الأمم والأمصار، وكانوا -رضوان الله عليهم- خير من يحمل الأمانة ويؤديها بحقها، فقد كانت الدعوة إلى الله هي المحرك الذي تقوم عليه حياة الصحابة، فلا تجد أحد منهم إلى وداعية حاملاً للرسالة، كيف لا وهم تربوا على يد أشرف المعلمين والمربين على مر التاريخ، وقد كان الصحابة يعلمون يقيناً عظم الأجر والثواب الذي ينالونه من الدعوة إلى الله، وأنهم بدعوتهم للأمم والقبائل إنما يؤدون الرسالة الأعظم في الإسلام، وقد روى أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مَنْ آثَامِهِمْ شَيْئا). وفي مسند أحمد: (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ إِذَا رَأَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالاً فَلاَ يَقُولُ بِهِ فَيَلْقَى اللَّهَ وَقَدْ أَضَاعَ ذَلِكَ فَيَقُولُ مَا مَنَعَكَ فَيَقُولُ خَشِيتُ النَّاسَ. فَيَقُولُ أَنَا كُنْتُ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى»،
أيها المسلمون
ومما لا يخفى على أحد مكانة الدعوة إلى الله وأهميتها في ديننا، فقد أعلى الله مكانة القائمين على الدعوة وجعلهم أحسن الخلق وأرفعهم مكانة بين الناس، وقد قال عز وجل في كتابه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فصلت (33)،
والدعوة إلى الله تعالى وتبليغ الشريعة السمحة واجب على كل أفراد الأمة الإسلامية، كلٌّ بحسب قدرته واستطاعته، وبحسب موقعه وكفاءته العلمية، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن هداية الناس إلى سبيل الحق والخير من أفضل الأعمال عند الله عز وجل، ففي الصحيحين: قال صلى الله عليه وسلم لعلى رضي الله عنه: (فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ». وفي رواية في “المستدرك”: (خير لك مما طلعت عليه الشمس)
وقد حذرا الله تعالى من كتمان العلم وعدم البلاغ بقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} البقرة (159)، وانصبَّت اللعنات على بني إسرائيل لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر؛ فقال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79]،
فيجب على كل مسلم أن يبلغ ما لديه من العلم، لمن لم يعلمه، قَلَّ ذلك أو كَثُر، وذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، واستجابة لأمره صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: « بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً)، وفي سنن الترمذي وغيره: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ). فالأصل في الإسلام أن يقوم كل واحد من المسلمين بالدعوة، ذكرًا كان أو أنثى، كبيرًا كان أو صغيرًا، ولا يُتَصوَّر المجتمع المسلم بمعزل عن الدعوة إطلاقًا، بدءًا من الأسرة الصغيرة التي يتحمل فيها الأب والأم مسؤولية الدعوة؛ كما في الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهْيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا)، وفي صحيح مسلم: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ».
وإنما تكون المسؤولية في مدى الالتزام بالأوامر والنواهي، ولا يتحقق ذلك إلا بالدعوة؛ ولذا فكل الأمَّة مطالبة بالدعوة كلٌّ بحسبه، فمن يقدر على الدعوة يجب عليه القيام بها، ومن لا يقدر فإنه قادر على إعانة القادرين عليها، وإذا كان العامة غير قادرين على الدعوة بالأسلوب النظري والمناهج الدعوية المدروسة، فهم قادرون على الدعوة بالأسلوب العملي الناجم عن ضرورة التزام المسلم – عاميًّا كان أو غير ذلك – بتعاليم الإسلام عقيدة وشريعة، ولقد اهتدى إلى الإسلام الكثيرون بسبب المعاملة الحسنة، والسلوك الحميد من خواص المسلمين وعوامهم ، إضافة إلى أن عوام المسلمين قادرون أيضًا على إعانة القادرين على الدعوة بأموالهم، وتيسير وسائل الدعوة للدعاة، ودلالتهم على احتياجات المدعوين، فالدعوة مسؤولية كل مسلم ، كل بحسب قدرته وطاقته، لا يعفى من ذلك أحد.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
الاسلام هو دين الحق، والحق يَحتاج لقوة تَحميه وتُظهِره؛ فلا قيام للباطل إلا في غفلة الحق، فإذا سكَت الحق، نطَق الباطل وانتعش وانتفش، وتمرَّد وتنمَّر، ولكن الحق سيَنتصِر مهما طال الزمن، ومهما كان الثمن؛ قال الله تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18]، وأما الباطل، فسينهار ويَندحِر؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]؛ فالحق أحقُّ أن يُتَّبع، وهو باقٍ لا يَبلى ولا يَفنى ولا يُنسى؛ قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17]،
ومن المعلوم أن إهمال المسلم لواجبه تجاه الدعوة إلى الاسلام ، يجلب المعاناةَ للمسلمين كافة، ويعين كثيرًا ممن يسعون إلى تشويه الإسلام، فكثير من الناس صدَّهم عن الإسلام معاملةٌ سيئة، أو هضم حقوق، أو إغلاظ في المعاملة من بعض المنتسبين إلى الإسلام، فويل للذين يصرفون الناس عن الإسلام، وينفرونهم عنه بسوء قولهم أو فعلهم.
الدعاء