خطبة حول قوله تعالى ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ )
أبريل 12, 2025الخطبة الأولى (الْجَزَاءُ الْأَوْفَى)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (39): (41) النجم.
إخوة الإسلام
لقد اقتضت حكمة الله – تبارك وتعالى- أن يخلق الإنسان ليعبده، وأن يودعه ظهر هذه الأرض، ليمر في رحلة الاختبار والامتحان والابتلاء، ثم بعد ذلك يتقرر مصيره، فإن أحسن الالتزام والأداء والانضباط في أمور حياته كما أراد الله عز وجل، كانت عاقبة أمره يسرا، وكان مأواه جنة عرضها كعرض السماء والأرض، أعدت للمتقين، وإن أساء الالتزام، وابتعد عن جادة الحق، التي أرادها الله تعالى، كانت عاقبة أمره خسرا، وكان مأواه جهنم، لا يموت فيها ولا يحيى، ولأجل ذلك اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يبعث المرسلين، مبشرين ومنذرين، ويبعث معهم الهداية والرشاد والاستقامة، ويؤيدهم بالمعجزات الدامغة، لتقيم الحجة العقلية، والبرهان الدامغ، على صحة ما يدعون إليه، وقد تتابعت قافلة الخير من هؤلاء الرسل، الداعين للخير والهداية، فلم تخل أمة عبر تاريخ البشرية الطويل، من واحد منهم، قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر:24)، وكانت بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم الخاتمة لقافلة الخير، قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الأحزاب:40)، حيث كانت بعثته عليه الصلاة والسلام للناس كافة، على عكس من سبقه، حيث بعثوا لأقوامهم خاصة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (سـبأ: 28).
أيها المسلمون
والمتدبر لهذا الآيات المباركات: يتبين له أنها مختصر للحياة الدنيا، (سعيٌ، ثم حساب، ثم جزاء)، فهناك من (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وهناك من يقال لهم (وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا)، فكأن الآيات تقول لنا: فاسعَ لنفسك وقدّم لحياتك، (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (36): (40) الشورى.
وهذه الآيات الكريمات: تهب القلب الأمان المطلق، وتبين أنه لا محاولات تذهب سُدى، ولا جُهد يتلاشى ضائعًا، وأنَّ البذرة التي تُغرَس لا بدَّ وأن تُزهر، ولو في فصلٍ قادم، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (47) الأنبياء.
وهذه الآيات المباركات: تقول لي ولك: لا تدري أي من عملك الصالح سيرفعك الله تعالى بجزائه، ربما عفوك عمن ظلم وتعدى، وربما ركعات في جوف الليل رغم تعبك، وربما استسلامك لقدر الله برضا، فصبراً على جميع ما تفعل فسعيك كله يُرى، وسوف تجزاه الجزاء الأوفى، وفي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ وَحَيِّهِ إِلَى صَلاَتِهِ فَيَقُولُ رَبُّنَا أَيَا مَلاَئِكَتِي انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ وَمِنْ بَيْنِ حَيِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلاَتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي. وَرَجُلٍ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَانْهَزَمُوا فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْفِرَارِ وَمَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ فَرَجَعَ حَتَّى أُهَرِيقَ دَمُهُ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلاَئِكَتِهِ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَرَهْبَةً مِمَّا عِنْدِي حَتَّى أُهَرِيقَ دَمُهُ».
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى): يقول علماء التفسير: فالآية أثبتت أن الإنسان ليس له في هذه الحياة إلا سعي نفسه، ونفت أن يكون له سعي غيره؛ قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30]. وقال سُبحانَه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7،8].
ويقول العلماء: ولكن ليس في الآية ما يفيد أن الإنسان لا يجوز له أن ينتفع بعمل غيره، فالآية لا دلالة فيها على هذا من قريب أو بعيد؛ وليس كل ما لا يملكه الإنسان لا يحصل له من جهته نفع، بل ثمة أمور لا يملكها الإنسان، ومع ذلك يحصل له من جهتها نفع؛ فإذا كان ظاهر الآية يدل على أن الإنسان لا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه -وهذا حق لا ريب فيه- فإن هذا لا يمنع أن ينتفع الإنسان بسعي غيره، كما أن الله يرحم عباده، ويفتح عليهم من أبواب رحمته، بأسباب خارجة عن طوقهم ومقدورهم، ويرزقهم ويغدق عليهم من عطائه، بأسباب يجريها على أيدي عباده؛ ففي صحيح مسلم: (رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً لاَ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلاَّ قَالَ الْمَلَكُ وَلَكَ بِمِثْلٍ». فهو سبحانه يرحم المصلي على الميت، كما ينتفع بصلاة المصلين عليه، ودعائهم له عند قبره؛ وأيضًا فإن أطفال المؤمنين يدخلون الجنة مع آبائهم، بلا سعي ولا عمل، فكل هذا وغيره يدل على أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره، ولا ينافي ذلك صريح الآية.
وأما قوله تعالى: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى): فسعي الانسان وعمله سوف يُرى في الدنيا، وفي الآخرة، فيميَّز حَسَنه من سيئه؛ وفي ذلك تشريف للمحسن، وتوبيخ للمسيء، وهناك من يرى عملك في الدنيا، قال الله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:١٠٥] يعني: عملكم لن يخفى على من هم في وقتكم، فسيرى الله عملكم، ورسوله، والمؤمنون، وسعي الإنسان سوف يرى في الآخرة، ولكن الله تعالى قد يستر على العبد ذنوبه، فضلاً منه ومنة، وإذا لقاه في الآخرة خلا به سبحانه وتعالى، وقرره بذنوبه، ففي صحيح مسلم: (قَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي النَّجْوَى قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ «يُدْنَي الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ أَعْرِفُ. قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ».
فكل إنسان مرتهن بعمله؛ فمن آمن وعمل صالحا، كانت له السعادة في الدنيا، والفوز الأكبر يوم القيامة، ومن كفر وعمل السوء، ارتد عليه ذلك في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ [الروم: 44].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الْجَزَاءُ الْأَوْفَى)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وأما قوله تعالى: (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى): فهذه أصولُ الإيمانِ بالوَعدِ والوَعيدِ، والثَّوابِ والعِقابِ، وهي نتيجةُ الإيمانِ بالأمرِ والنَّهيِ والمَعادِ، بل نتيجةُ الجزاءِ في الدُّنيا والآخِرةِ، فُيُجزى الإنسان على سعيه الجزاء المستكمل لجميع عمله.
ومن قصص الجزاء على العمل الصالح: قيل أن سيدنا الحسن (رضي الله عنه) كان مارا على بعض بساتين وحدائق المدينة، فرأى عبدا أسودا، بيده رغيف، يأكل منه لقمة، ويطعم الكلب لقمة، إلى أن شاطره الرغيف بأكمله، فكان منظرًا غريبًا، وشيئًا فريدا، فلعل هذا العبد الأسود كان هذا الرغيف قوت يومه، ليس له غيره، ولكنه شاطر الكلب الرغيف، رغم شدة حاجته إليه، فهذا المنظر الغريب استرعى انتباه الحسن (رضي الله عنه)، واستوقفه، فذهب إلي العبد الأسود يسأله: ما حملك على أن شاطرت الكلب ولم تغابنه، أي لم تخدعه أو تنقصه فيه بشيء؟ فلم يكن عليك رقيب، ولا للكلب لسان حال يشكو به، ولا له عليك دين أو حق يطالبك به، وكان جواب العبد: استحت عيناي من عينيه أن أغابنه.
أثار هذا المنظر وهذا الجواب العجيب في نفس سيدنا الحسن (رضي الله عنه)، ما أثار من المروءة التي كانت بالرجل، والخلق الكريم به، فقرر في نفسه أن يجازيه جزاءً عظيمًا، فقال له: يا غلام من أنت؟، قال: غلام أبان بن عثمان، قال الحسن (رضي الله عنه): والحائط لمن؟، قال العبد لأبان أيضا، فقال له الحسن (رضي الله عنه): أقسمت عليك لا برحت حتى أعود إليك.
فمر الحسن (رضي الله عنه) فاشترى الغلام والحائط، وبذل الكثير من أجل شرائهما، ولكنه كان يرى أن سلعته غالية، وجاء إلى الغلام، فقال له: قد اشتريتك!، فوقف الغلام قائمًا، وقال :السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي، قال الحسن (رضي الله عنه): وقد اشتريت الحائط، وأنت حر لوجه الله، والحائط هبة مني إليك، هذا هو الجزاء الأوفى، كافأه الله قبل سيدنا الحسن (رضي الله عنه)، لما رأى فيه الله من صدق ورحمة مع حيوان، لا يستطيع أن ينطق ولا يتكلم.
الدعاء