خطبة عن (الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ)
ديسمبر 1, 2024الخطبة الأولى (الْجَهْلُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (63) الفرقان، وقال تعالى: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) (64) الزمر، وقال تعالى: (قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) (23) الأحقاف، وقال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (138) الأعراف ،وفي سنن أبي داود: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ مَا خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلاَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ».
إخوة الإسلام
(الْجَهْلُ): ذُكر في القرآن الكريم على عدة معاني، ومنها: الجهل بمعنى اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه وفيه، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} الانعام:111، وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الأعراف:199, وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} الزمر:64، وجاء ذكر الجهل بمعنى خلو النفس من العلم، قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} النحل:119, وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} الحجرات:6، وجاء ذكر الجهل بمعنى فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} البقرة:67, وقال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} هود:46،
وفي السنة المطهرة جاء ذكر الجهل في عدة أحاديث، ومنها: ما رواه الإمام مسلم في صحيحه: (عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ «أَلاَ إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ..)، وفي صحيح البخاري: (عَنْ شَقِيقٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى فَقَالاَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ لأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ، وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ»، وفي الصحيحين: (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
أيها المسلمون
والجهل بكافة معانيه، وكل صوره وأقسامه، هو داء عظيم, وشر مستطير، بل هو أساس الشر وجماعه، فجماع الشر هو (الجهل والظلم)، الجهل بالله الخالق، والجهل بالرسول الكريم، والجهل بالدين القويم، والجهل بالنفس، والجهل بحقيقة الخلق وغاية الوجود، قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) الأحزاب، ولأن الله تعالى يعلم جهلنا، فقد جعل باب التوبة مفتوحا، لأن جهل الانسان يجعله يقع في السيئات والذنوب، قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (17) النساء، وقال تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (54) الانعام،
والجهل أعدى أعداء الإنسان، لذا جاء في الأمثال العربية: (عدو عاقل خير من صديق جاهل ). وقولهم: (رأس مالك علمك، وعدوك جهلك). والجاهل: يظلم من خالطه، ويعتدي على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه، ويتكلم بغير تمييز، وإن رأى كريمة أعرض عنها، وإن عرضت عليه فتنة وقع فيها، فالجهل أكثر الأشياء ضررا بالإنسان، وهو من أخطر الآفات في الكثير من المجتمعات، فالجهل هو السبب الرئيسي في تخلف الأمم والأفراد، ومن الملاحظ أن الجهل ينتشر بين البشر جميعاً، دون استثناء، ولكن بدرجات متفاوتة، فالجاهل لا يعني أن الشخص غير حاصل على شهادة علمية، ولكن يعني أن الشخص جاهل في أمرٍ ما، كأن يكون جاهلا بأمر الآخرة، وليس له عناية بأحكام الشرع، وما حرم الله وما أباح، وما أوجب، وهذه مصيبة عظيمة؛ لأنه لم يرفع رأسًا بالأحكام الشرعية، ولم يلتفت إليها، وإنما همه أن يحصل على الشهادة التي يتوظف بها، ويعيش بها،
وقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهل، ففي سنن النسائي وغيره: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ «بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَزِلَّ أَوْ أَضِلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ». والاسلام دعا إلى محاربة الجهل ونبذه، سواء في القول، أو الفعل، أو الاعتقاد، واعتبر انتشاره في الأمة علامة من علامات السَّاعة، ففي الصحيحين: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا»، وكان الرسولُ صلى الله عليه وسلم حريصا على العلم، وهو أول من سعى إلى رفع الجهل عن الأمة، ففي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنَ الأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلاَدَ الأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ)، وفي صحيح مسلم: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)، وفي سنن ابن ماجه: (وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ». وقد امتدح القرآن الكريم العِلم والعلماء، وذَمَّ الجهلَ وأهلَه، وفاضل بينهما في المنزلة، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ الزمر:9.
أيها المسلمون
والجهل أعم من الأمية، فكل أمي قد يكون جاهلاً، ولكن ليس كل جاهل أمياً، والجهل لا يزول إلا بالعلم، ففي صحيح البخاري: (قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ»، وأفضل العلم هو علم التوحيد، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} محمد:19، فعلى كل إنسان أن يبذل قصارى جهده في التعلم والتعليم، فقد خلق الله لكل إنسان أدوات العلم، قال تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} النحل:78، وكانت أول آية نزلت من القرآن الكريم فيها الحث على القراءة والتعلم، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (1): (5) العلق، وقد تربَّى الصحابةُ رضيَّ الله عنهم على يديه ﷺ وتعلموا أمور الدين والشريعة، وتخلصوا من الجهل ومفاسده؛ ففي سنن البيهقي: (أن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَأَحَدُنَا يُؤْتَى الإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فَيَتَعَلَّمُ حَلاَلَهَا، وَحَرَامَهَا، وَآمِرَهَا، وَزَاجِرَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ مِنْهَا. كَمَا تَعَلَّمُونَ أَنْتُمُ الْيَوْمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُ الْيَوْمَ رِجَالاً يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الإِيمَانِ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا آمِرُهُ وَلاَ زَاجِرُهُ وَلاَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ مِنْهُ فَيَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ).
فالجهل والأمية يُحاربان بالعلم وبالتعلم، والتفقه في الدين، والتدبر للقرآن الكريم، وحضور مجالس العلم، وسؤال العلماء، ومراجعة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل:43]، وفي سنن أبي داود وغيره: (أن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَصَابَ رَجُلاً جُرْحٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ احْتَلَمَ فَأُمِرَ بِالاِغْتِسَالِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَمْ يَكُنْ شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالَ». فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يعنى بأحكام الشرع قبل كل شيء، وأن يتعلم ما أوجب الله عليه، حتى يؤديه، وما حرم الله عليه، حتى يجتنبه، ويعرف حدود الله، ثم بعد ذلك لا حرج أن يأخذ من العلوم ما ينفعه في أمر الدنيا، أما أن تكون علوم الدنيا وأن يكون قصده من التعلم هو الحصول على الحظ العاجل، فهذه من المصائب العظيمة، وينتج عن هذا القصد وعن هذا الانحراف في التعلم فساد كبير في أمور الدين، وفي المجتمع، فإن صلاح المجتمع واستقامته وترابطه إنما يكون بتعلم ما أوجب الله، وما شرع الله، حتى يتعاونوا على البر والتقوى، وحتى ينصح بعضهم بعضًا، وحتى يرشد بعضهم بعضًا بالخير والهداية، وهكذا يتآمروا بالمعروف، ويتناهوا عن المنكر،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الْجَهْلُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن أخطار الجهل: الوقوع في المحرمات، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، ومن أخطار الجهل: فساد العقيدة: وقد استعاذ النبي ﷺ من خطورة الجهل في التصور والاعتقاد، ففي الصحيحين: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، ومن أخطار الجهل: إفساد الضروريات، وهي: (الدين والنفس العقل والمال والعرض )، فيتسلط الجهل عليها، فتؤول الأمة إلى الفساد والزوال، ومن أخطار الجهل: انتشار الهرج: وهو الاختلاط والقتل، المنذر بقرب الساعة، ففي سنن ابن ماجه: (قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ لَهَرْجًا». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْهَرْجُ قَالَ «الْقَتْلُ». فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَقْتُلُ الآنَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَيْسَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ وَابْنَ عَمِّهِ وَذَا قَرَابَتِهِ». فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَعَنَا عُقُولُنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ» تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ لاَ عُقُولَ لَهُمْ». وفي الصحيحين: (قَالَ أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ، وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ»،
والجاهل قد لا يعذر بجهله: فقد ساق أهل العلم أدِلَّة في العُذرِ بالجَهلِ، فالجَهْلِ الذي يُعذَرُ صاحِبُه هو: أن يقولَ قولًا أو يعتَقِدَ اعتقادًا بخِلافِ الحَقِّ، غيرَ عالمٍ وغيرَ قاصدٍ للمُخالَفةِ، رَغْمَ اجتِهادِه في رَفْعِ الجَهلِ عن نَفْسِه، وهو بهذا المعنى يتَّفِقُ مع الخطَأِ؛ حيث إنَّ الجاهِلَ والمخطِئَ غيرُ قاصِدَينِ للمخالَفةِ؛ لذلك وردت النُّصوصُ من الكِتابِ والسُّنَّةِ في إعذارِهما ورَفْعِ الإثمِ عنهما في حُكْمِ من لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ، فالجهل الذي يعذر به صاحبه هو الجهل بالحكم ، فمن ترك واجباً وهو لا يعلم أنه واجب، أو فعل محرماً وهو لا يعلم أنه محرم، فهذا هو الجاهل الذي يعذر بجهله، أما من علم أن هذا الفعل محرم، ففعله وهو يجهل العقوبة المترتبة عليه، فهذا لا يعتبر عذراً، لأن صاحبه أقدم على المعصية، وانتهك الحرمة، وهو يعلم، فمثلا: من علم أن الزنى حرام، ولكنه جهل أن الزاني عليه الحد، فهذا لا يعذر، ويجب إقامة حد الزاني عليه، إذا توفرت شروط إقامته، وكذلك: من ترك الصلاة، وهو يجهل أنها فرض، فهذا يعذر بجهله ولا يكفر، أما من تركها وهو يعلم أن تركها حرام، ولكن لا يعلم أن تركها كفر فهذا لا يعذر، والدليل: ما رواه أبو داود في سننه: (أن أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ جَاءَ الأَسْلَمِيُّ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَقْبَلَ فِي الْخَامِسَةِ فَقَالَ «أَنِكْتَهَا». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَهَلْ تَدْرِى مَا الزِّنَا». قَالَ نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ حَلاَلاً. قَالَ « فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ». قَالَ أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ. فَسَكَتَ عَنْهُمَا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ فَقَالَ «أَيْنَ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ». فَقَالاَ نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «انْزِلاَ فَكُلاَ مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ». فَقَالاَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا قَالَ «فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلٍ مِنْهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ الآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْقَمِسُ فِيهَا»، وكذلك الصحابي الذي جامع امرأته في نهار رمضان، حيث كان عامداً عالماً بحرمته، فأوجب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه الكفارة ولم يعذره بجهله بها، ففي الصحيحين: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ. قَالَ «مَا لَكَ». قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا». قَالَ لاَ. قَالَ «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ». قَالَ لاَ. فَقَالَ «فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا». قَالَ لاَ. قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ – وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ – قَالَ «أَيْنَ السَّائِلُ». فَقَالَ أَنَا. قَالَ «خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ». فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا – يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ – أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».
الدعاء