خطبة عن (قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ)
يونيو 23, 2025الخطبة الأولى (الْخِيَانَةُ بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (58) الانفال، وقال تعالى: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) (52) يوسف، وفي سنن النسائي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ).
إخوة الإسلام
لقد حث الاسلام على حفظ الأمانة، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) {النساء:58}، ونهى الاسلام عن الخيانة، فقال تعالى: (وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) [النساء: 105]. قال السعدي رحمه الله: أي: لا تخاصم عمن عرفت خيانته، من مُدَّعٍ ما ليس له، أو منكر حقًّا عليه، سواء علم ذلك أو ظنه. وفي سنن البيهقي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا». وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ». وفي سنن البيهقي: (عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (الْمُسْلِمُ يُطْبَعُ عَلَى كُلِّ الطَّبِيعَةِ غَيْرَ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ).
فالخيانة نقيض الأمانة، وهي خلق ذميم، وصفة خسيسة، وهي صفة تتجلى في عدم الوفاء بالوعود أو الأسرار، وقد نهى الله عنها في مواضع كثيرة، قال تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج:38]، وقد وصف الله بها الكفار والمنافقين، ولذا كان حُكم الخيانة: أنها ذنبٌ كبير، حرمه الله تعالى، وشدد عليه في القرآن مرارًا، وجاءت بتحريمه الأحاديث الصحيحة، ورأى بعض الفقهاء: أنها كبيرة من كبائر الذنوب والمعاصي.
وللخيانة أشكال كثيرة، وصور متعددة، ومنها: خيانة الله ورسوله، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال:27]، قال ابن عباس: (الأمانات: الأعمال التي ائتمن الله تعالى عليها العباد). وقال الكلبي: أما خيانة الله ورسوله: فمعصيتهما. وأما خيانة الأمانة: فكلُّ واحد مؤتمن على ما افترضه الله عليه إن شاء خانها، وإن شاء أدَّاها، لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى. ومن صور الخيانة: خيانة النفس: وهي فعل الذنوب بالخفاء، قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور﴾ [غافر :19]، ومن صور الخيانة: الخيانة في المال: أي أكل المال الذي يؤتمن عليه الإنسان، ومن ذلك مال الوديعة، فإذا ائتمنه إنسان على شيء خانه، ومن صور الخيانة: إفشاء الأسرار، قال الحسن: (إنَّ مِن الخيانة أن تُحدِّث بسرِّ أخيك). ومن صور الخيانة: الخيانة في النُّصح أو المصلحة: كمن يزكِّي فاسقًا، أو يخفي مالًا مسروقًا، أو يؤوي مجرمًا، أو يعين قاطع طريق. أو من ينصح غيره بما يؤذيه في الدنيا أو الآخرة من الإفساد وقطيعة الرحم. ومن صور الخيانة: الخيانة الزوجية: وهي خيانة الرجل لزوجته بالسرقة والزنا وخيانة الزوجة لزوجها في ماله وعرضه، بالسرقة والزنا كذلك. ومن صور الخيانة: الخيانة في الأعمال والمسؤوليات: مثل التفريط في التربية ومعاملة الأهل، وقد ائتمنه الله عليهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) التحريم:6، ومن صور وأشكال الخيانة: عدم الوفاء بالعهد، قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ) (الأنفال:58). ومنها: إفشاء أسرار الدولة، قال تعالى: (وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:71).
أيها المسلمون
ولأن الخيانة صفة ذميمة، وهي من كبائر الذنوب، فقد كانت عقوبتها شديدة، في الدنيا والآخرة، فقد روى ابن حبان في صحيحه: (عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غشَّنا فليسَ منَّا والمَكرُ والخداعُ في النَّارِ)، والخائن يكون النبي ﷺ خصم، ويتبرأ منه يوم القيامة، ففي الترغيب والترهيب: (قال ﷺ: (من خان من ائتمنه فأنا خصمه)، ومن عقوبة الخيانة: أن الله تعالى يبغضه ولا يحبه، فقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (58) الانفال، والخيانة تجر الفقر والفاقة في الدنيا؛ فقد قيل: (الأمانة تجر الرزق، والخيانة تجر الفقر)
والخيانة لها عواقب وخيمة، وآثار سيئة، ومنها: الفُرْقَة بين الناس وفقدان الثقة بينهم، وتفشي الغش والكذب والظلم بينهم، وإعراض الله تعالى عن مرتكبها، وعدم محبته له: قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) (107) النساء، ومن آثار الخيانة ونتائجها: أن الخيانة مرض عضال إذا تمكَّن من الإنسان؛ جرَّده من إنسانيته، وجعله يهيم وراء ملذاته، ولا يبالي بشيء آخر، وهي من علامات النفاق، وطريق موصل إلى العار في الدنيا، والنار في الآخرة.
أيها المسلمون
وإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم، رأينا واقعا مرًّا، فقد أصبح من النادر جدًّا أن تجد أمينًا، فما أكثر الغش والخيانة والخداع في هذا الزمان، بل ويؤتمن الخائن ويخوَّن الأمين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبرنا بذلك، ففي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ». قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الْخِيَانَةُ بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة ضياع الأمانة، وفشو الخيانة، ففي صحيح البخاري: (قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ، وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ»، وفيه أيضا: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، والخيانة صفة من صفات المنافقين ،وهم في هذا الزان كثر، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»،
ولهذا فقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخيانة، ففي سنن النسائي وغيره: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ)، ولأن الخيانة صفة قبيحة، وليست من صفات المؤمنين، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم، ففي صحيح مسلم: (عَنْ جَابِرٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلاً يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ). ومن المعلوم أنَّ كلَّ خائن، لا بدَّ أن تعود خيانته ومكره على نفسه، ولا بد أن يتبين أمره، كما ورد في القرآن على لسان امرأة العزيز: {وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} (يوسف:52).
الدعاء