خطبة عن (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)
يناير 13, 2025خطبة عن (أَنْفِقُوا يُنْفِق اللَّهُ عَلَيْكُمْ)
يناير 14, 2025الخطبة الأولى (الْغَفْلَةُ عَنِ الْمَوْتِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (35) الأنبياء، وقال تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) النساء:78، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (8) الجمعة
إخوة الإسلام
الله تعالى خلق الموت كما خلق الحياة، يقول الله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (2) الملك، وهو سبحانه جعل لكل نفس أجلا مسمى، قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) (61) النحل، وقال تعالى: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون:11]. والله تعالى رغَّب عباده في الجنة، ورهَّبهم من النار، وحذرهم من الغفلة، ولكن الكثير من الناس ينسى هذه الحقائق، ويقدم الدنيا على الآخرة، ويلهو ويلعب، غافلا عن حياة الخلود، قال تعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) (20)، (21) القيامة، وقال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (16)، (17) الأعلى، وقال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء:1- 2]، ويقول سبحانه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115]. فالدنيا أنفاس معدودة، وآجال معلومة، وأرزاق مقسومة، قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} فاطر: (11)
كما حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغفلة عن الموت، والدار الآخرة، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ». يَعْنِى الْمَوْتَ، وفي سنن ابن ماجه: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ قَالَ: «أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا». قَالَ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ». وفي مسند البزار: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ، قَالَ: إِنَّ الْكَنْزَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ مُصْمَتٍ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ لِمَ نَصَبَ؟ وَعَجِبْتُ لِمَنْ ذَكَرَ النَّارَ لِمَ ضَحِكَ؟ وَعَجِبْتُ لِمَنْ ذَكَرَ الْمَوْتَ لِمَ غَفَلَ؟)،
أيها المسلمون
إن الغفلة عن الموت، وعمَّا بعد الموت، لهي من أسباب الطُّغيان والفساد، والاستمرار في الشَّر والمعاصي، أمَّا تذكر الموت وما بعده، فهو من أسباب التَّوبة والإقلاع، والاستعداد للآخرة، وفي الصحيحين: (يقول صلى الله عليه وسلم: (فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّى أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»، فالدنيا ليست للبقاء، وإن تراخى العمر فيها وامتدَّ المدى، فأيّامُها مراحل، وساعاتها قلائل، والمرءُ لا شكَّ عنها راحِل، فشبابُها هرَم، وراحتُها سَقَم، ولذّاتُها نَدَم، فالدنيا قنطرةٌ لمن عَبَر، وعبرةٌ لمن استبصَر واعتبر، قال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (آل عمران: 185). فاستبقوا الخيرات، وبادِروا قبل أن تتمنّوا المهلةَ ولو ساعة، ولكن هيهاتَ هيهات، ولا تغترّوا بحياةٍ تقود إلى الممَات، لا يُرى في حُشودِها إلاّ الشتات، ولا يُسمَع في ربوعِها إلا “فلان مرِض” أو “فلان قد مات”، فالموت حق لا ريب فيه، ويقين لا شك فيه، فمن يجادل في الموت وسكرته، ومن يخاصم في القبر وضمته، ومن يقدر على تأخير موته، وتأجيل ساعته، قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ الأعراف:34،
فلم تتكبر أيها الإنسان، وسوف تأكلك الديدان، ولماذا تطغى، وفي التراب ستلقى، فلا تغفل عن الموت، وأعد الزاد لحين خروج الروح، ومفارقتها جسدك، لعل الله يرحمك، ويختم بالصالحات أعمالك، فتذكرك للموت يردعك عن المعاصي، ويُلين القلب القاسي، فكفى بالموت واعظا؟، ومن لم يتعظ بالموت فبمَن؟، فيا كثير السيئات، إن للموت لسكرات، ويا هاتك للحرمات، إن للقبر لظلمات، ويا غارقا في الشهوات، إن للنار لزفرات، فاسأل نفسك ماذا أعددت لما هو آت، حسرات، أم عبرات، فهناك سكرات، وقبور موحشات، وعظام نخرات، فانتبه يا أسير الغفلات، فكَيْفَ نغْفَلُ عَنْ الموت، وَمَلَكُ الْمَوْتِ لا يَغْفُلُ عنا؟، وكَيْفَ نتَّكِلُ عَلَى طُولِ الأَمَلِ وَالأَجَلُ يَطْلُبُنا؟،
فعمل الإنسان لا يخلو من أحد أمرين: إما عملا صالحا، يحيل قبره إلى روضة من رياض الجنة، وإما عملا سيئا، يحيل قبره إلى حفرة من حفر النار، وفي سنن الترمذي: (أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ». قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ»، وقال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم عظني: فقال : (اضطجع، ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة، فجدّ فيه الآن وما تكره أن يكون فيك فدعه الآن) ،فلو تذكرنا الموت، وأقمناه عند رؤوسنا، لتركنا الكثير من فضول أعمالنا وأقوالنا، ولظهر الاجتهاد في العمل والإخلاص في النيات، وتضاءلت الحياة، استعداداً للممات، وفي صحيح البخاري: (وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ »، فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم، ويعتبرون الموت جسراً يعبرون عليه إلى الآخرة، والناس عند الموت على حالين: إما محبٌ للقاء الله فيحب الله لقاءه، وإما كارهٌ للقاء الله، فيكره الله لقاءه، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». قَالَ فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ هَلَكْنَا. فَقَالَتْ إِنَّ الْهَالِكَ مَنْ هَلَكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَا ذَاكَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». وَلَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ. فَقَالَتْ قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَيْسَ بِالَّذِي تَذْهَبُ إِلَيْهِ وَلَكِنْ إِذَا شَخَصَ الْبَصَرُ وَحَشْرَجَ الصَّدْرُ وَاقْشَعَرَّ الْجِلْدُ وَتَشَنَّجَتِ الأَصَابِعُ فَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ).
فعجباً لذاكر الموت كيف يلهو؟، ومن تيقن حلوله كيف يزهو؟، وإذا ذُكرت له الآخرة كيف يلغو؟، أما علم أهل الغفلة أن أعمارهم عليهم حجة، أما علموا أن الآخرة لا ترجى بغير عمل؟، فالويل لأهل الغفلة، إن أعطوا لم يشبعوا، وان منعوا لم يقنعوا، يأمرون بما لا يفعلون، وينهون وهم لا ينتهون، وهم للناس لوامون، ولأنفسهم مداهنون، قال تعالى: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ الحجر: 3، وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه وهو يحتضر: (ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا، ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟، ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟، ثم بكى فقالت له امرأته: أتبكي وقد صاحبت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ومالي لا أبكي ولا أدري علام أهجم من ذنوبي)، وبكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه فقيل له ما يبكيك فقال:(أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ولكني أبكي على بعد سفري وقلة زادي وإني أصبحت في صعودٍ مهبط على جنة أو نار ولا أدري أيهما يأخذ بي ).
فالغفلة عن الموت حجاب عظيم، يجعل بين المرء وبين ربه وحشة عظيمة، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99، 100]
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الْغَفْلَةُ عَنِ الْمَوْتِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وللغفلة عن ذكر الموت أسباب، ومن أعظم أسبابها: الجهل بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، ومن أسباب الغفلة: الاغترار بالدنيا، والانغماس في شهواتها، قال تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر:3]، ومن أسباب الغفلة: أصحاب السوء، قال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً) [الفرقان:27-29].
وقد صف الله الغافلين عن الآخرة بأنهم: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7]، فقد غفلوا عن الآخرة، فنسوا ربهم، وجهلوا حقيقة مهمتهم، وشرعوا لأنفسهم، واستبدوا في أحكامهم، وعتوا عتواً كبيراً، لقد استخدموا ذكاءهم، وسخروا علومهم، ووظفوا مخترعاتهم، في أسلحة الدمار، والصراع على موارد الخيرات، والتنافس غير الشريف. قال ابن كثير: في قوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) “أي: أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشئونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين، وما ينفعهم في الدار الآخرة)، وقال الحسن البصري: (واللَّه ليبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي)، وقال ابن عباس في قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الآية: يعني: الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال”
فحريٌّ بكلّ مسلم أن ينشد الفلاح والنجاة لنفسِه، وذلك بوقفة تأمّلٍ ومحاسبةٍ، يراجعُ فيها نفسه، وينظرُ إلى ما قدّم فيما مضى من عُمرِه، ويلقِي عن عاتقه رداءَ الغفلة، فإنّ كلَّ يوم ينقضي يدني من الأجل، ولنتذكر أننا مسؤولون أمام الله عن أعمارنا، وأوقاتنا، ففي سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ ».
فهلموا نحاسبْ أنفسنا، وننظرْ في كتاب أعمالنا، كيف طويناه، وعن وقتنا كيف قضيناه، فإن وجدنا خيراً حمدنا الله وشكرناه، وإن وجدنا شراً تبنا إلى الله واستغفرناه، ولا بد لنا من التخفف من الدنيا، وعدم الركون إليها؛ فالانغماس في ملذات الدنيا وترفها، والركون إليها، ينشأ من الغفلة عن الآخرة، وتشتت القلب،
فاتقوا الله حق تقاته، ولا تكونوا ممن استولت عليهم الغفلة، واستحوذ عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله والدار الآخرة، وغرتهم الأماني الباطلة، والآمال الخادعة؛ حتى غدوا وليس لهم همٌّ إلا في لذات الدنيا وشهواتها، فكيف حصلت حصّلوها، ومن أيّ وجه لاحت أخذوها، وإذا عرض لهم عاجل من الدنيا لم يؤثروا عليه ثواباً من الله ورضواناً، فحقا ما قال ربنا: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7].
الدعاء