خطبة عن (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
أكتوبر 11, 2023خطبة عن أجر الآخرة وأجر الدنيا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا)
أكتوبر 12, 2023الخطبة الأولى (الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام الترمذي في سننه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ»
إخوة الإسلام
لقد ارتضى الله سبحانه وتعالى لعباده شريعة الإسلام دينا؛ فقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3] – وجعل الله في هذه الشريعة الطاهرة تنظيم أحوال العباد في علاقتهم بربهم، وعلاقاتهم فيما بينهم، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن حقيقة الإيمان والإسلام ليست في أن يقوم المرءُ بالشعائر التعبدية فحسب، بل الأمر أوسع من ذلك، فلا يُكتفى ولا يُرتضى من المسلم أن يكون قائمًا بحقوق ربه في صلاة وزكاة وصيام وحج، ثم يُفرِّط في حقوق الخلق، بل لا بد أن يكون متوازنا معتدلا، فيعطي كل ذي حق حقه، ففي صحيح البخاري: (إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)، ولذا لَما عُرِض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم شأن واحدة من المسلمات، حين عُرِج به إلى السماء، رآها تُعذب في النار، مع أنها كانت مسلمة، تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإنها عُذِّبت في النار لإخلالها بحقٍّ من الحقوق العظيمة، ليس لبني الإنسان فحسب، ولكن في شأن الحيوان، ففي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ»
أيها المسلمون
وفي هذا الحديث الذي بين ايدينا اليوم يُنبِّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمور كبرى في شأن الإيمان فيقول: (وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)، فإذا كان المؤمن إنما يبلغ هذه الدرجة بعد صلته الوطيدة بربه جل وعلا، حينما يقوم بحقوق الله عليه، فلا بد أن يقوم بحقوق الناس أيضا ،فيكون الناس آمنين على أموالهم وأنفسهم منه، فالمُؤمنُ الحقُّ، والَّذي تحقَّقَت فيه صِفَةُ الإيمانِ، وظهَرَت عليه علاماتُه، هو الذي يأْمَنُه النَّاسُ، ولا يَخافَونه على أنفُسِهم وأرواحِهم وأموالِهم؛ فلا يَقتُلُ، ولا يَسرِقُ، ولا يَنهَبُ، ولا يظلم، ولا يغتاب، ولا يخوض في الأعراض، ولا يستولي على أموالهم بطرق غير مشروعة، بل المؤمن هو الذي يقوم بحقوق الإيمان، والتي من أهمها: رعاية الأمانات، والصدق في المعاملات، والورع عن ظلم الناس في دمائهم وأموالهم، ومن كان كذلك، وعرف الناس هذا منه، أمنوه على دمائهم وأموالهم، ووثقوا به، فحفظ الأمانات من أخص واجبات الإيمان، كما في مسند أحمد: قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ». فالمؤمن محل ثقة الناس، فهم يأمنونه وإن اختلفوا معه، ويأمنونه في الحروب والسلم، يأمنونه على أموالهم وأسرارهم بلا شهود ولا إثباتات. بل يأمنونه على دمائهم لصدق تدينه، وورعه، وخوفه من ربه، وهذا الحديث ينذر أولئك الذين يظهرون للناس بلباس الدين، وسمت المؤمنين، وهم بعيدون كل البعد عن أخلاق المؤمنين، فهم مع أدائهم للعبادات، يفشلون في اختبار الأمانة والورع والصدق في الخلوات. فسحقا لكل من ادعى الصلاح، ويخاف منه الناس، ولا يأمنون شره.
أيها المسلمون
والمؤمن كنز من الذهب الخالص، فهو نبيل شهم لا يعرف الحقارة والخسة، ولا يتلون حسب الاحوال، ولا يتغير أصله في الشدة والرخاء، وهو في علو دائما، وإن طرأ عليه غبار، فسرعان ما يعود لأصله النفيس، والمؤمن كالنحلة، لطيف في شدته ونقده، فإن نقد فلا يكسر، ولا يهشم، ولا يجرح العلاقات ولا القلوب، ولا يفجر في الخصومات، فهو نظيف وطيب في مطعمه، ونظيف وجميل فيما يخرج منه من مواقف وأفعال وأقوال، ولا يعرف القذارة لا مدخلا ولا مخرجا، وعلى ذلك حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ الْقِطْعَةِ مِنَ الذَّهَبِ نَفَخَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا فَلَمْ تَغَيَّرْ وَلَمْ تَغَبَّرْ وَلَمْ تَنْقُصْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّباً وَوَضَعَتْ طَيِّباً وَوَقَعَتْ عَلَى عُودٍ فَلَمْ تَكْسِرْ وَلَمْ تُفْسِدْ » رواه احمد بسند صحيح
والمؤمن كله منفعة، كلامه وافعاله، جواره ومعرفته وصداقته وادارته وقيادته، فإيمانه جعله منبعا للخير، مفتاحا له، متوقعا منه دائما، واغلق فيه كل ثقوب الشر، فلا يتوقع منه أبدا، فإن لم ينفعك بأمر ما، فلن يضرك أبدا، قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شيء نفعك) رواه الطبراني والبزار بسند صحيح.
والمؤمن تحمر خدوده خجلا، وتطرق عيناه إلى الأرض حياءً، فإيمانه ممزوج بحيائه، وعلى قدر إيمانه يكون حياؤه، قال صلى الله عليه وسلم: «الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ». متفق عليه، وفي صحيح الأدب المفرد للبخاري: (إن الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر). وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ ». قَالَ أَوْ قَالَ « الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ »
والمؤمن وفي صادق، لا يغدر ولا يخون، فإيمانه يقيده عن الفتك والغدر- ففي سنن أبي داود: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ ».والمؤمن يخشى فضيحة الغادرين يوم القيامة، ففي الصحيحين: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « الْغَادِرُ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ »
أيها المسلمون
والمؤمن إذا تكلم فهو صادق، لأنه من اتباع الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، ولا يكتفي بصدق الحديث بل صدقه في الأقوال والأفعال والأحوال ، فهو يحول كلماته إلى أفعال واقعية حقيقية تبرهن حسن إسلامه، وحسن اقتدائه بسيد الصادقين عليه الصلاة والسلام.
والمؤمن كريم يبذل كل ما في وسعه، بل وأكثر، في سبيل نقل مغانمه إلى الآخرة، فتراه يعطي الشيء وهو في أمس الحاجة إليه، يقينا منه بأن: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) القصص:60،
والمؤمن عطوف حنون حساس، رقيق القلب والوجدان، يشعر بضعف المريض، وعجز العاجز، وبضيق ذات يد المحتاج، فيسارع إلى مساعدة الآخرين،
والمؤمن صبور، لا يقبِح فعلا من أفعال الله، يرضيه ما يرضي الملك سبحانه وتعالى، قد خفض جناح الذل للمعز المذل، الخافض الرافع، لا يشكو همه للناس، بل يشكو همه فقط لرب الناس.
والمؤمن الحق عادل مع نفسه، ومع الآخرين، يحمي نفسه من السهر والضجر والتذمر واللامبالاة والسلبية، ويحمي الآخرين من تسلط نفسه الإمارة عليهم، لا يطالب بحقوقه إلا بعد أن يؤدي كامل مسؤولياته بكامل الالتزام والإتقان والإحسان.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الْمُؤْمِنُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والمؤمن الحقيقي هو الذي يطبق ما صح عن رسول الله بأنه ما ضرب امرأة قط، بل يضع أمه تاجا على رأسه، ويكرم زوجته، ويرحم أخته، ويعطف على ابنته، ويداوم على زيارة خالاته وعماته.
والمؤمن الحق: طموح فعال نشيط، مشغول بمعالي الأمور، له ورد يومي من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقراءة ثم للفهم ثم للتطبيق العملي ثم للدعوة ونشر هذه الكنوز والجواهر الروحية النفيسة بين الناس كل الناس
والمؤمن الحقيقي طائر جميل، رأسه محبة غامرة لله سبحانه وتعالى، وجناحاه خوف من عقابه، ورجاء لثوابه، وهكذا فهو لا يراه مولاه فيما لا يرضاه، ويجتهد في أن ينال أكبر ثواب يزيد فرص دخوله الجنة.
والمؤمن الحق: وفي لكل أصحاب الفضل عليه، فربه العظيم الكريم، المتفضل، ونبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، ثم الوالدين والإخوة والأحباء، ثم المعلمين الأفاضل، ثم الأصدقاء الأوفياء، ثم الزوجة الصابرة على الضراء، الشاكرة في السراء.
والمؤمن صادق الإيمان لا يحقر أحدا ولا شيئا، يحترم الكبير، ويعطف على الصغير، ولا يبخس الناس أشياءهم، ولا يعير من امتحنهم الله ببعض الامتحانات الشكلية أو المضمونية.
والمؤمن يحب الله ورسوله، ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم في كل أقواله وأفعاله وأحواله، هذا هو المؤمن الحق، ألا فكونوا من المؤمنين.
الدعاء