خطبة عن (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)
فبراير 10, 2025خطبة عن (جدد إيمانك)
فبراير 12, 2025الخطبة الأولى (الْمُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (12) البقرة. وفي مسند أحمد: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ .. «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ للْبُرَآءِ الْعَنَتَ».
إخوة الإسلام
الله سُبحانَه وتعالى- خَلَق الإنسان صالحًا، وعلى الفِطْرة السليمة، قابلًا للهداية والرَّشاد، وجعل الأرض صالحةً للمعاشِ، وهيَّأها للعباد، وأنزل كُتبَه، وأرسل رُسلَه، لتزكية النُفوس، وإعمارِ القلوب، وإصلاح المبدإ والمَعاد، وحرم الله سبحانه وتعالى الفساد والافساد في الأرض، ونهى عنه، فقال تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف:56]. وأخبر القرآن الكريم أن الله لا يحب الفساد، وأن الله تعالى لا يصلح عمل المفسدين، فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة:٢٠٥]، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: ٦٤]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس:81]. فاللهُ سُبحانَه وتعالى- لا يُـحِبُّ الفساد، ولذا فقد حرَّمَ الفساد والإفسادَ بشتَّى صُوَرِه وأشكاله،
والفساد يقابله الإصلاح، يقول الراغب في مفرداته: «الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال، قليلا كان أو كثيراً، ويضادّه الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة»، وفي كثير من موارد القرآن الكريم ذُكر الفساد في مقابل الإصلاح، قال تعالى: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:152]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220]، وقوله تعالى: {وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]، كما ذكر الإيمان والعمل الصالح في مقابل الفساد، حيث يقول تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} [ص:28].
أيها المسلمون
وقد تواترت النصوص الشرعية في الكتاب والسُّنة عن الفاسدين والمفسدين، وبيان صفاتهم وأماراتهم؛ ليكون الناس على بيِّنة من أمرهم؛ فيحذروهم، وقد تكاثر هؤلاء المفسدون في عصرنا الحاضر، وتعدَّدت راياتهم، وتفننوا في ابتكار صنوف الفساد والإفساد في كل الميادين، من أجل ذلك كان من الواجب علينا أن نتدارس صفاتهم بيانًا للحقيقة، وتحذيرًا من تغوُّل المفسدين وطغيانهم في البلاد، فمن أبرز صفاتهم التي جاء بيانها في القرآن الكريم: العلو والاستكبار في الأرض: فهي صفات ملازمة للمفسدين، كما قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ومن علامات هذا العلو والطغيان: تطاوُل المفسدين على الضعفاء وانتهاكُ كرامتهم والتعدي على حقوقهم، قال تعالى: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]. ومن صفات المفسدين: زخرفة القول بالباطل، ليخدعوا الناس، ويلبِّسوا عليهم، بتغيير الحقيقة، ونكران الواقع، فقد قال فرعون زعيم المفسدين: {إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ . وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204-205]. ومن صفات المفسدين: الصدُّ عن سبيل الله، فمنهم من يُزيِّنون للناس الباطل، ويصدونهم عن سبيل الله والحق، ومنهم قطَّاع الطرق الذين يعترِضون سبيل الناس، ويسعون في الأرض فسادًا، قال تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:86]، وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]. وطرائق المفسدين في الصدِّ عن سبيل الله تعالى تتنوَّع وتتجدَّد بتجدُّدِ الأماكن والأزمان، ويجمعهم وصف الله لهم في قوله جل شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [لقمان:6]، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما في الصحيحين: «دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا». ومن صفات المفسدين: الغِش والخيانة: فهي صفة ملازمة للمفسدين في جميع العصور والأمكنة؛ لأنهم لا أمانة لهم. قال تعالى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ . وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:181-183]. ومن صفات المفسدين: إشاعة الفاحشة: فهم يسعون لإشاعة الفاحشة في المجتمع، ويؤسسون مراكز ونوادٍ لنشر المنكر، وإفساد الأخلاق والقيم بلا حياء ولا خجل، قال تعالى: {وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ . أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:28-30]. ومن صفات المفسدين: أنهم يقِلبون الموازين، ويزيفون الحقائق، ويُسمُّون الأمور بغير مسمياتها؛ قال تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة:11-12]، وقال تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} [التوبة:48]. وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. ففرعون ها هنا يزعم أنه يحافظ على دين قومه من تبديل نبي الله موسى (عليه الصلاة والسلام) أو إظهاره الفساد في الأرض! وهكذا هي سُنة المفسدين في كل عصر، يعترِضون طريق المصلحين ويُشوِّهون صورتهم، ويزعمون أنهم وحدَهم الدعاة إلى الإصلاح والنهضة في المجتمع، ولهذا كان من الواجب على المصلحين أن يواجهوا أولئك السفهاء، وأن يأخذوا على أيديهم، ويبصِّروا المجتمع بمخازيهم، امتثالًا لقوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود:116]،
أيها المسلمون
وصور الفساد والمفسدين كثيرة ومتعددة: فمن أعظم الفساد وأصل أنواعِه الكفرَ باللهِ تبارك وتعالى، قال تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) النحل:88، فالإنسانَ إذا كفرَ بربِّهِ، ماتَ قلبُه وفَسَدتْ روحُه، قال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ص:28، فالكافِرُ باللهِ سُبحانَه لا يحجِزُه عن الفَسادِ والإفسادِ شَيء، إنَّما فَسَادُه صادرٌ عن طُغيانِهِ وعُلُوِّه، فهُوَ ظَلومٌ جَهول، يلهثُ خلفَ شهَواتِه، ويُورِدهُ شَيطانُه كلَّ مَورِد، فلا مانعَ لَديهِ من قتلِ نفوسِ الأبرياء، ونَهْبِ أموال الفُقراء، وإتيانِ الفواحش، والعُدوانِ على الحُرُمَات.
ومن صور الفساد: النفاق: فالمنافقون مفسدون في الأرض، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (8): (12) البقرة
ومن صور الفساد: هؤلاء اليهودَ ومَن عاوَنهم، فهم مفسدون، ويُوقِدون الحروب، ويَقْتُلون الأبرياء، ويسعَوْن في الأرض فسادًا، وعاقبتُهم إلى هلاك، قال تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) (4) الاسراء، وقال تعالى: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) (70) المائدة، وقال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (78)، (79) المائدة،
ومن صور الفساد: هؤلاء الذين يعيثون في الأرض فسادا، ويهددون أمن الآمنين، ويسلبون حرية السالمين، ويقطعون الطرق والشوارع، قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (33) المائدة
ومن صور الفساد: هؤلاء الذين يفسدون في الأرض بعد صلاحها، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (41) الروم، فبسبب التلوث في البر والبحر والجو، تغير مناخ الأرض، وظهرت الأمراض والأوبئة، وفنيت بعض الكائنات، وترتب على ذلك فساد كبير.
ومن صور الفساد: فساد القلوب: فهؤلاء الصنف من البشر، الذين اسودت قلوبهم، من كثرة المعاصي والذنوب، فأصبحوا فئة من المجتمع لديهم أفكار مسمومة فاسدة ولم يكتفوا بفسادهم فقط، ولكنهم يرغبون في إفساد من حولهم، فهذه الفئة من أخطر الفئات على المجتمع، لما قد تسببه من دمار للقيم والدين والأعراف،
ومن صور الفساد: الغارقون في كبائر الذنوب قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } [البقرة:205]، وقال تعالى : {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة:27].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الْمُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
لقد أرسل الله تعالى الأنبياء والرسل، ليرفعوا رايةَ الإصلاح، كما قال نبي الله شعيب -عليه السلام-: (قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (88) هود، فقد قامت دعواتُ الرسل على توحيدِ الله بالعبادة والتعظيم، والبراءةِ من الكفر والشرك وأهله، وإصلاحِ حياة الناس بالشريعةِ الربّانيةِ الهاديةِ العادلة، فنَهَوْا أقوامَهم عن الفساد والإفساد، وعن إِتيان الفواحش، وظُلمِ الخَلق، والتَطْفيفِ في الميزان، وعن سائر المنكَرات، ولكنَّ ذلك لم يُعجب الذين يَقْتاتون على الفساد والإفساد، فانظر إلى نبي الله صالح -عليه السلام-، إذ تآمَرَ على قتلِه أولئك المجرمون المفسدون، وفي ذلك قال الله تعالى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (48): (51) النمل، وها هو نبي الله لوطٌ -عليه السلام- يرى قومَه على فاحِشَةِ إتيانِ الذُّكور، فلمَّا نهاهم عن تلك الجريمة الشَّنْعاءِ أمروا بطَردِه ونفيه، قال تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (28): (30) العنكبوت، إنَّهُم مُفسِدُون، وأيُّ فسَادٍ بعدَ الشِّركِ أعظمُ من ارتِكاسِ الفِطَرِ في مُستَنقَعِ الرَّذيلة الآسِن.
وقد قضى الله سُبحانَه وتعالى- أن يرث الأرض عباده الصالحون المُصلحون، فقال سُبحانَه: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) الأنبياء:105، فالمؤمن: صالحٌ غيرُ مفسِد، ولا يطيع أمرَ المفسدين، ويُصلح ما أفسده المجرمون، قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) (150): (152) الشعراء
أيها المسلمون
إنّ الإيمانَ بالله والاعتصامَ بالشريعة الربانية هو أمانُ الأرض وصلاحُها، فالمؤمن يُصلِح ولا يُفسد، كما وصفه النبي ﷺ فقال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا، وَوَقَعَتْ عَلَى عُودٍ فَلَمْ تَكْسِرْ وَلَمْ تُفْسِدْ». أخرجه أحمد.
فالمؤمن بإيمانه وبشريعتِه المُصْلِحة، تجدُه يحمل للعالم الخيرَ والبِرّ، بالدَّعوة إلى الحقّ والهداية إلى الجنة، وحتى جهادُه إنما هو إصلاحٌ في الأرض، وتطهيرٌ من الفساد، فلا صلاحَ ولا إصلاحَ إلا بالإيمان بالله واتِّباع شريعةِ الرحمن، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (170) الأعراف.
الدعاء