خطبة عن (أيها المهموم: أبشر، فإن الفرج واليسر قادم)
أكتوبر 19, 2024خطبة عن (كُونُوا أَئِمَّةً لِلْمُتَّقِينَ)
أكتوبر 22, 2024الخطبة الأولى (الْوَرَعُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى ابن ماجه في سننه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحَسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ». وفي مسند البزار: (عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكِمُ الْوَرَعُ).
إخوة الإسلام
حديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن خلق جليل، وصفة لا يتصف بها إلا الكمل من المؤمنين ،إنه خلق (الْوَرَعُ)، فالورع خلق كريم من أخلاق هذا الدين العظيم؛ فبه يطيب المطعم والمشرب، وفيه استبراء للدين والعرض، وهو سمة من سمات العُبّاد، وصفة من صفات أهل الفضل والشرف، فالورع من أعلى درجات الإيمان.
والورع (في الاصطلاح): هو اجتناب الشبهات؛ خوفًا من الوقوع في المحرمات، وعرَّفه القَرافيُّ بقَولِه: (تَركُ ما لا بأسَ به؛ حذَرًا ممَّا به البأسُ)، ويستعمَلُ الورع بمعنى التقوى، وهو الكفُّ عن المحرَّماتِ القطعيَّةِ، وقيل الورع: هو تَركُ ما يَريبُك ونَفيُ ما يَعيبُك، والأخذُ بالأوثَقِ، وفي مسند البزار: (عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ قَالَ قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ»، وفيه أيضا: (عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكِمُ الْوَرَعُ).
فالورع درجة عالية من درجات الإيمان، قال سفيان بن عيينة: (لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه)، فمن ابتعد عن الشبهات واتقاها، حفظ دينه من النقص، وحفظ عرضه من الذم، أما من خاض في الشبهات، وتجرأ عليها، فقد عرض نفسه للخطر، وتسبب لنفسه في الوقوع في الحرام، والاستخفاف في الشبهات يوقع في الكبائر،
وقد أوضح ابن القيم الفرق بين الورع والزهد فقال: (أنَّ الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة)، وأيضا هناك فرق بين الورع والتشدد، فالورع ترك ما لا بأس به، حذراً مما به بأس، وأما التشدد: (فهو تحريم الحلال، أو تركه تعبداً، أو التعبد بما ليس بعبادة)، أما ترك بعض المباحات، أو التقليل منها لتهذيب النفس، وكسر شهوتها، وخوفاً من الانجراف إلى الإكثار من المباحات، بحيث تجر إلى ما فيه شبهة، فلا شيء في ذلك، ولا تشدد في هذا، بل هو نوع من أنواع علاج النفس.
أيها المسلمون
وما أحوج الناس في هذا الزمان إلى هذا الخلق الكريم، خلق الورع، فقد قلّ الورع، وأصبح الناس في غاية الجَشع والطمع، فالورع يحرُس صاحبَه، ويمنعه من الوقوع في المحرمات، أو التقصير والتفريط في أداء الواجبات، وهو طوْق للنجاة في الدنيا والآخرة، فبه تحفظ الأعراض والدماء والأموال، وهو سبب لبذل المعروف، وقناعة النفس، وسخاء اليد، وبه يُحفظ اللسان عن القيل والقال، والغيبة والنميمة، وإثارة الفتن وتأجيج الصراعات،
ومن المعلوم أن الورع ليس على درجة واحدة، بل هو أنواع وأقسام، ومنه الواجب والمستحب، ومنه الفاسد والمحظور، فالورع الواجب والمستحب: هو فعل الواجب، وترك المحرم، واجتناب الشبهات، ففي الصحيحين: (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «الْحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكْ أَنْ يُوَاقِعَهُ»، وفي صحيح البخاري: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ)، وفي مسند أحمد: قال صلى الله عليه وسلم: «يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ»، وفي مسند أحمد: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَمُرُّ بِالتَّمْرَةِ، فَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهَا فَيَأْكُلَهَا إِلاَّ مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ). وفيه أيضا: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَجَدَ تَحْتَ جَنْبِهِ تَمْرَةً مِنَ اللَّيْلِ فَأَكَلَهَا فَلَمْ يَنَمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَقَالَ بَعْضُ نِسَائِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرِقْتَ الْبَارِحَةَ قَالَ «إِنِّي وَجَدْتُ تَحْتَ جَنْبِي تَمْرَةً فَأَكَلْتُهَا وَكَانَ عِنْدَنَا تَمُرٌ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ»
وأما الورع الفاسد والمحظور: فهو ورع الجاهلين والمتنطعين، والمتشددين، قال ابن تيمية: (كثيرٌ من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادةٍ ونحوها، فيكون ذلك مما يقوِّي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: «إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ» [النجم:23]، ومن الورع الفاسد والمحظور: ما ذمه الله تعالى في القرآن من الورع عمَّا حرَّمه الناس، ولم يحرِّمه الله تعالى، كالبحيرة ،والسائبة، والوصيلة، والحام. ومن الورع المحظور ذلك الذي ذمَّه الرسول ﷺ، كما في صحيح البخاري: (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضي الله عنه – يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ،وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، ولهذا فيحتاج المتدين المتورع إلى علمٍ كثيرٍ بالكتاب والسنة، والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه.
أيها المسلمون
ومن الملاحظ أن الناس في باب الورع على أقسام: الأول: من كان تاركا للورع في الجملة، جريئا على انتهاك الحرمات، مجاهرا بالفواحش، والثاني: من كان عاملا بالورع في الجملة حريصا عليه، لكنه تاركا للورع في خصلة من الخصال، فتراه مثلا ملازما للشرع، ولكنه يتساهل في باب الأموال، أو باب النساء، أو يتورع في الكبائر، ولا يتورع عن الصغائر، فهذا يرجى له الخير، ولكنه لم يحقق الورع المطلوب، ويجب عليه أن يتنبه لخطر تساهله في بعض الأمور، ويسارع في التوبة، ويلتزم الشرع، والثالث: من كان ملازما للورع في سائر أحواله، متورعا في الكبائر والصغائر، فارا بدينه عن الفتن، متبعا للسنة، تاركا للشبهات، فهذا كحال الأولياء والمقربين من عباد الله الصالحين.
وللورع في حياتنا صور متعددة، ومنها: الورع في النظر: ففي سنن أبي داود: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِعَلِىٍّ «يَا عَلِىُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ». ومن صور الورع: الورع في السمع: ففي سنن أبي داود وغيره: (عَنْ نَافِعٍ قَالَ سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ مِزْمَارًا – قَالَ – فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ وَنَأَى عَنِ الطَّرِيقِ وَقَالَ لِى يَا نَافِعُ هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا قَالَ فَقُلْتُ لاَ. قَالَ فَرَفَعَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ وَقَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا)، ومن صور الورع: الورع في الشم: فعن عمر بن عبد العزيز : (أنه أُتي بغنائم مسك؛ فأخذ بأنفه، فقالوا: يا أمير المؤمنين: تأخذ بأنفك لهذا؟ قال: إنما ينتفع من هذا بريحه؛ فأكره أن أجد ريحه دون المسلمين). ومن صور الورع: الورع في اللسان: ففي موطإ الامام مالك: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ). وعن الفضيل بن عياض قال: (أشدُّ الورع في اللسان). ومن صور الورع: الورع في المأكل والمشرب: ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ». ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ». ومن صور الورع: الورع في الفتوى: فقد كان الأئمة الصالحون يتورعون عن الافتاء، وكانوا كثيرا ما يستروحون بكلمة (لا أعلم)، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (والله إن الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه لمجنون). وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله). وقال سفيان الثوري: (أعلم الناس في الفتيا أسكتهم عنها وأجهلهم بها أنطقهم).
ومن صور الورع: أن يبتعد المسلم عما لا يفيده ولا يعنيه، وألا يتدخل فيما لايخصّه، إلا بالخير والإصلاح، وألا يبحث عما يخفيه الغير، فدعْ للناس أسرارهم، وانشغل بعيوب نفسك ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»، وروى البخاري في صحيحه: (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «…وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ». (الآنك) الرصاص المذاب. وفي سنن الترمذي: (عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ».
فصاحب الورع لا يكون إلا مؤدَّبا، متخلقا بكل خُلق جميل، مبتعدا عن كل خُلق قبيح، لأنه يريد بورعه أن يُرضيَ ربه، ففي سنن الترمذي: (عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: «المُتَكَبِّرُونَ». والورع يعصم المؤمن من الوقوع في الفتن الخاصة والعامة قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: (يَا زَيْنَبُ، مَا عَلِمْتِ ؟ مَا رَأَيْتِ ؟)، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْرًا. قَالَتْ عائشة: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالوَرَعِ). متفق عليه.
وإذا غاب الورع من حياة الناس، فلا يُبالي أحدهم من أينَ أتَته دُنياه، وبأيّ طريقٍ وصَلَت لُقمتُه، وعلى أيّ حال كانت مُتعته، وعلى أيّ محرّمٍ كانت شهوتُه، وإذا غاب الورع من الحياة ساءت الأخلاق، فلا ترى إلا غاشًّا للرعية، وخداعًا في المعاملات، وظلامًا للخلق، وهضامًا للحقوق، ومضيعا للواجبات، ومتعديًا على الأعراض والأنفس والممتلكات.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الْوَرَعُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن صور الورع فيمن كانوا قبلنا، ليكون لنا فيهم أسوة حسنة: ما قصه علينا رسول الله ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الغُلاَمَ الجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا). وانظروا إلى ورع الصّديق رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ. فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ». وعن نافع: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمس مائة فقيل له: هو من المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه. يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه). رواه البخاري. وقال قزعة: (رأيت على ابن عمر ثيابا خشنة أو جشبة فقلت له: إني قد أتيتك بثوب لين مما يصنع بخراسان وتقر عيناي أن أراه عليك. قال: أرنيه. فلمسه وقال: أحرير هذا؟ قلت: لا إنه من قطن. قال: إني أخاف أن ألبسه أخاف أكون مختالا فخورا والله لا يحب كل مختال فخور).
أيها المسلمون
ومما يعين المرء على خلق الورع: أن يستحضر خطر الوقوف بين يدي الله عز وجل، ومسائلته يوم القيامة، قال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) البقرة:281. ومما يعين المرء على خلق الورع: أن يستحضر شدة عذاب الله ومقته لمن اجترأ على المحرمات، وخاض في مظالم الناس، واستخف بحقوقهم، ففي صحيح البخاري: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا). ومما يعين المرء على خلق الورع: أن يتذكر المرء أن النجاة يوم القيامة، والتخفيف في الحساب، مرتبط بورعه وكفه عن الشهوات والشبهات في الدنيا، قال سفيان الثوري: (عليك بالورع يخفف الله حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك). ومما يعين المرء على خلق الورع: الاشتغال بعيوب النفس عن عيوب الناس، والتوبة من الذنوب، والتقليل من الفضول،
الدعاء