خطبة عن (وجاء الخليفة أبو بكر الصديق)
نوفمبر 25, 2025الخطبة الأولى (بر الوالدين وعقوقهما)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء:23-24].
إخوة الإسلام
هذه الآية الكريمة من كتاب الله العزيز وضعت لنا دستورا للتعامل مع الوالدين، فجمعت بين العقيدة والتربية، وبين حق الله، وحق الوالدين، فبعد أن أمر الله بتوحيده، وإفراده بالعبادة، قرن ذلك ببر الوالدين، والإحسان إليهما، ليدلّنا على عظم مكانتهما، ورفعة شأنهما، فجعلَ برَّ الوالدينِ بعدَ توحيدِه، وأمَرَ بالإحسانِ إليهما غايةَ الإحسانِ، حتّى في حالِ الكِبَرِ والضَّعفِ والاحتياجِ، فنُهينا أن نُؤذيهما بقولٍ أو فعلٍ، ولو كانَ بأخفِّ كلمةٍ وهي كلمةُ “أُفٍّ”. وأُمِرنا أن نُخاطبَهما بالقولِ الكريمِ، وأن نُعامِلَهما بالرِّفقِ والرحمةِ، وأن نَدعوَ لهما بالرحمةِ كما رَبَّيانا صِغارًا.
لقد عظَّمَ الإسلامُ شأنَ الوالدينِ، وجعلَ برَّهما من أعظمِ القُرُباتِ، وقرَنَ حقَّهما بحَقِّ اللهِ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿أَنِ اشكُر لي وَلوالِدَيكَ إِلَيَّ المَصيرُ﴾ [لقمان:١٤]. فانظُروا كيفَ جمعَ بينَ شُكرِهِ سبحانه وشُكرِهما، فكما لا يُغفَرُ جُحودُ اللهِ تعالى، كذلكَ لا يُغفَرُ جُحودُ فضلِ الوالدينِ،
وبر الوالدين جهاد في سبيل الله، ففي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ».أي: اجعَل جهادَك في برِّهما ورعايتِهما، فإنَّ ذلكَ أعظمُ عندَ اللهِ. وفي صحيح مسلم: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ «الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا». قَالَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قَالَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، فجعل بر الوالدين مقدّمًا على الجهاد، إلا إذا كان الجهاد فرض عين.
والوالدان هما السبب في وجود الإنسان بعد الله تعالى، وهما اللذان تحمّلا المشقة في تربيته صغيرًا، وتحملوا من العناء ما لا يطيقه أحد، فالأم حملت ووضعت، وأرضعت وسهرت وربّت، والأب سعى وكدّ، وجاهد في طلب الرزق، فحقهما عظيم، وفضلهما جسيم، ولذلك أمر الله ببرّهما، والإحسان إليهما في الحياة وبعد الممات، فبر الوالدين لا يقتصر على حال حياتهما، بل يمتد بعد موتهما، في سنن أبي داود وصححه الألباني: (عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا قَالَ «نَعَمِ الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا ». وفي رواية أحمد: (قَالَ َيا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ عَلَىَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَبَرُّهُمَا بِهِ قَالَ «نَعَمْ خِصَالٌ أَرْبَعَةٌ الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لاَ رَحِمَ لَكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمَا فَهُوَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ بِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا »، فتأمّلوا ـ عباد الله ـ كم ضيّع الناس من هذه الأبواب، وكم منّا قصّر في الدعاء لوالديه، أو إكرام أصدقائهما، أو صلة أرحامهما.
أيها المسلمون
وبر الوالدين لا يعرف سنًّا، ولا وقتًا، بل هو واجب العمر كله، صغيرًا كنت أو كبيرًا، غنيًّا أو فقيرًا، ولقد ضرب لنا القرآن أروع الأمثلة في برّ الوالدين، فهذا نبي الله يحيى (عليه السلام) قال الله عنه: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ [مريم:14].
وكان النبي ﷺ من أعظم الناس برًّا، وضرب لنا أروع الأمثلة، فقد روى البخاري في صحيحه: (عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ قَدِمَتْ أُمِّي وَهْىَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ، إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – مَعَ أَبِيهَا، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَقُلْتُ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهْيَ رَاغِبَةٌ {أَفَأَصِلُهَا} قَالَ «نَعَمْ صِلِى أُمَّكِ»، فانظروا إلى عظمة الإسلام الذي أمر بصلة الوالدة المشركة، والإحسان إليها، فكيف بالمسلمة المؤمنة؟
وبرُّ الوالدينِ لا يقتصِرُ على الطاعةِ فحسب، بل يشملُ الإحسانَ إليهما بالقولِ والعملِ، والإنفاقَ عليهما عند الحاجةِ، والدعاءَ لهما، ومِن البرِّ أن يرفُقَ المرءُ بوالدَيهِ عندَ الكِبَرِ، ويَصبِرَ على ما قد يصدُرُ منهما من الضَّعفِ أو الضَّجرِ أو كثرةِ الطَّلبِ، فقد قالَ بعضُ السَّلفِ: “من برَّ والديه في صِغره، برَّهُ أولادُه في كِبرِه”.
ومن البر: إكرامَ أهلِ وُدِّهما بعدَ موتِهما، وفي صحيح مسلم: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ أَلَسْتَ ابْنَ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ قَالَ بَلَى. فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ وَقَالَ ارْكَبْ هَذَا وَالْعِمَامَةَ – قَالَ – اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ أَعْطَيْتَ هَذَا الأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ. فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ». وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ). فبرّ الوالدين ليس كلمة تُقال، بل سلوك يُمارس، وتعبير عملي عن الشكر والعرفان، ووسيلة لنيل رضا الله، من برّ والديه رضي الله عنه ربه، وبُورك له في عمره وماله وولده، ومن عقّهما ضاق عيشه، وخُذل في دنياه وآخرته.
ولقد كان السلف الصالح من أحرص الناس على بر والديهم. جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: قتلت ذنبًا كبيرًا فهل لي من توبة؟ قال: أمك حيّة؟ قال: لا. قال: استغفر الله وتُب إليه وأكثر من العمل الصالح. فقال رجل لابن عباس: لِمَ سألته عن أمه؟ قال: إني لا أعلم عملًا أقرب إلى الله من برّ الوالدة.
وهذا أويسُ القرنيُّ (رضيَ اللهُ عنهُ)، كانَ بارًّا بأمِّهِ برًّا عظيمًا، حتى صارَ من أولياءِ اللهِ، وأوصى النَّبيُّ ﷺ أصحابَه أن يطلبوا منه الدُّعاءَ إن لَقوهُ، ففي صحيح مسلم: (قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ». فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ).
وكانَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ يلقى رجلًا في طريقِ الحجِّ، فيقول له: “إنِّي أحبُّكَ في اللهِ لأنَّكَ كنتَ تُبرُّ أمَّكَ”، فيُكرِمُه ويُحسِنُ إليهِ بعد موتِ أمِّه.
فلنكثر من الدعاء لوالدينا أحياءً وأمواتًا، ولنبرّهم بالقول الحسن، والخدمة، والطاعة في المعروف، والقيام بحوائجهم، ولنعاملهم كما يحب الله، ولنجعل دعاءنا الدائم: ﴿رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. ولنُكثِرْ من الدُّعاءِ لهما بعدَ موتِهما. قالَ اللهُ تعالى في وصفِ المؤمنينَ: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفِر لَنا وَلِإِخوَانِنَا الَّذينَ سَبَقونا بِالإيمانِ وَلا تَجعَل في قُلوبِنا غِلًّا لِلَّذينَ آمَنوا﴾ [الحشر:١٠]. وأوْلى الناسِ بهذا الدُّعاءِ الوالدانِ. فلنرفُقْ بهما، ولنُحسِنْ إليهما، ولنتذكَّرْ أنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ: «بَرُّوا آباءَكم تبرُّكم أبناؤُكم» [رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني].
أيها المسلمون،
وإذا كان بر الوالدين من أعظمِ القُرُباتِ، وأجل الطاعات، فإن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب، ففي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ». ثَلاَثًا. قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ،وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ». وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ «أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ». قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ)، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم العقوق قرين الشرك، وهذا يدل على شدّة خطره، وعِظَم إثمه، وأنه من الكبائر التي تهلك العبد في الدنيا والآخرة، وفي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ «يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ ،وَيَسُبُّ أَمَّهُ».
ومن صور العقوق المنتشرة اليوم: رفع الصوت على الوالدين، أو مقاطعتهما في الكلام، أو إظهار الضجر والتأفف منهما، أو التقصير في خدمتهما، أو تقديم الزوجة والأولاد عليهما، أو إلقاء الأعباء كلّها عليهما، مع القدرة على خدمتهما، وهذا كلّه من العقوق الذي حذّر الله تعالى منه.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (بر الوالدين وعقوقهما)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وعقوق الوالدين ليس فقط برفع الصوت أو الإيذاء المباشر، بل هو كل فعل أو قول يُحزن قلبهما، أو يُدخل عليهما الهم والغم، ولو كان بكلمة يسيرة، قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء:23]، فنهى حتى عن التأفف.
ومن صور العقوق: التكبر عليهما، وإهمالهما في الكِبر، وتفضيل الزوجة والأبناء عليهما، والانشغال عنهما وقت الحاجة، أو عدم الدعاء لهما بعد وفاتهما.
وقد أخبر النبي ﷺ أن عقوق الوالدين يُعجَّل لصاحبه في الدنيا، فقال: “كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات” [رواه الحاكم، وصححه الألباني]. وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْبَغْي وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ». وعقوق الوالدين من قطيعة الرحم.
ولنا في قصص السلف عبرة: فقد ذكروا أن رجلًا كان يرفع صوته على أمه، فكان الناس يقولون: “هذا عقوق، والله لا يُفلح”، فما أفلح في حياته ولا في ذريته.
ومن أعظم البلاء أن يُحرَم المرء من برّ والديه، أو يموتا وهو مقصّر في حقهما، فيعيش نادمًا حزينًا، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ». قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ». وفي صحيح الأدب المفرد للبخاري: (عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر، فلما رقى الدرجة الأولى قال: “آمين”. ثم رقى الثانية، فقال: “آمين”.. ثم رقى الثالثة: فقال: “آمين”. فقالوا: يا رسول الله! سمعناك تقول: “آمين” ثلاث مرات؟ قال: “لما رقيت الدرجة الأولى جاءني جبريل صلى الله عليه وسلم، فقال: شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يغفر له. فقلت: آمين. ثم قال: شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. فقلت: آمين. ثم قال : شقي عبد ذكرتَ عنه ولم يصل عليك. فقلت: آمين”. فالعاقُّ مطرودٌ من رحمةِ اللهِ، يُعجَّلُ له العقابُ في الدُّنيا قبلَ الآخرةِ، ولا يُبارَكُ له في عمرٍ ولا مالٍ ولا ولدٍ.
فتأمّلوا ـ عباد الله ـ: أن من عاش أبواه حتى الكبر، ثم قصّر في برّهما، فقد أضاع على نفسه فرصة عظيمة لدخول الجنة.
ولما كان العقوق ليس ذنبًا عاديًّا، بل هو سبب في غضب الله وسخطه، فليحذر الأبناء من الجفاء والغلظة، وليتذكروا أن الأيام دول، ومن عقّ والديه عُوق من أبنائه.
فاحرصوا على البر، وابتعدوا عن العقوق صغيره وكبيره، واسألوا الله أن يجعلنا وإياكم من البارين بوالدينا أحياءً وأمواتًا.
الدعاء
