خطبة حول حديث (أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)
مايو 6, 2025خطبة عن (الطَّرِيق إِلَى خِلاَفَة عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ)
مايو 8, 2025
الخطبة الأولى (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةٌ، أَتَصْبِرُونَ؟؟)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) (20) الفرقان. وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (35) الأنبياء.
إخوة الإسلام
شاءت حكمة الله أن يجعل هذه الدنيا دار امتحانٍ واختبارٍ وابتلاءٍ وفِتْنَةً، فقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (2) الملك؛ وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) هود:7، وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (7) الكهف، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) [الفرقان:20]، وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون) (الأنبياء:35). وقال تعالى: (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (1-3العنكبوت). وقال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران:179).
فاللهُ تعالى خلقَ بَني آدمَ واستعمرَهم في الأرضِ، وابتلاهم بالشرِّ والخيرِ، وذلك ليَميزَ طالحَهم من صالحِهم، وفاجِرَهم من بَرِّهم، ولِيتمايزَ بعضُنا عن بعضٍ إلى فريقَين لا ثالثَ لهما: صابرونَ على ابتلاءِ اللهِ، حُسنَ ظنٍّ باللهِ واحتسابا، وجَزِعون هَلِعون، يمقتونَ الصبرَ إذ يدعوهم التحلِّي بهِ، والتزوُّدُ بجَميلِه، إلى مخالفةِ النفسِ والهَوى، وهُم لا يدرونَ أنَّ جهنمَ تجتذبُهم إليها اجتذابا.
وهذا الابتلاء، وتلك الفتنة، عامٌّ في جميع الخلق: فامتَحن الله تعالى الرسل بالمرسَل إليهم، هل يُبلِّغونهم؟، وهل يقومون بواجب الأداء، وإقامة الحجة، والصبر على أذاهم؟، وامتَحن المرسَل إليهم بالرسل، هل يطيعونهم؟، وامتحن العلماء بالجهال، هل يعلمونهم ويصبرون على تعليمهم، ويقومون بواجب الدعوة إلى الله تعالى؟، وامتحن الجُهَّال بالعلماء: هل يطيعونهم ويهتدون بهم؟، وامتحن الملوك بالرعية، وامتحن الرعية بالملوك، وامتحن الأغنياء بالفقراء، فهذا الفقير الذي يأتي ويسأل الغني، هذا امتحانٌ له، هل يساعده؟ هل يعطيه؟ هل يقف معه؟، هل يتلطَّف معه في العبارة؟، وامتحن الفقراء بالأغنياء: فأنت أيها الفقير تسأل الغني ماله، فينبغي أيضًا أن تتأدب معه، وألا تسأل إلا عند الضرورة، فهو نوعٌ من الامتحان، فالغنى ممتحن بالفقير، فعليه أن يواسيه، ولا يسخر منه، والفقير ممتحن بالغنى، فعليه أن لا يحسده، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق، وامتحن الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، والرجال بالنساء، والنساء بالرجال، وأيضًا امتحن الرجل بامرأته، والمرأة بزوجها، والوالدين بأولادهما، والأولاد بوالديهما، والمؤمنين بالكفار، والكفار بالمؤمنين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بمن يأمرونهم، والمأمورين بالآمرين، والصحيح بالمريض، والشريف بالوضيع، وهكذا،
فهذه الدنيا هي دار اختبارٍ وامتحانٍ وفتنة وابتلاء، ولهذا جاء في صحيح مسلم: (عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ «أَلاَ إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِىَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ)، فبعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليبتلي به، ويبتليه أيضًا، فينبغي أن يستحضر المسلم هذا المعنى، (أنه ممتحن)، فأحيانًا بعض الناس قد يتضجر ويتذمر من أمورٍ معينةٍ، فلينظرْ إليها على أنها ابتلاءٌ، ابتُلي به، وينبغي له أن يصبر، لذا جاء عقبها قوله تعالى: {أَتَصْبِرُونَ}؟؟، فهذا استفهام، ومعناه الأمر، أي اصبروا إذاً ولا تجزعوا أيها المؤمنون، فالدنيا دار بلاء وامتحان، {أَتَصْبِرُونَ}؟؟، على هذا الابتلاء والاختبار، فتنالوا من الله تعالى الأجر العظيم، أم لا تصبرون، فيزداد همكم وغمكم؟،
ومن الملاحظ أن الناس يفرّون من الفتنة ذاتها، وهذا لا يصح؛ لأن الفتنة تعني الاختبار، فالذي ينبغي أن نفرَّ منه نتيجة الفتنة، لا الفتنة ذاتها، فالامتحان فتنة للطلاب، فمَنْ ينجح فالفتنة له خَيْر، ومَنْ يخفق فالفتنة في حَقِّه شَرٌّ، فالفتنة في ذاتها غير مذمومة، والماهر مَنْ يفوز فيها، ولأهمية الصبر يقول تعالى: {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1-2] يعني: مُطلَق الإنسان في خُسْر، لا ينجيه منه إلاّ أنْ يتصف بهذه الصفات: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر:3].
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) (20) الفرقان، تعني: لَتُخْتَبَرُنَّ – أيها المؤمنون – في أموالكم: بإخراج النفقات الواجبة والمستحبَّة، وبالجوائح التي تصيبها، وفي أنفسكم: بما يجب عليكم من الطاعات، وما يحلُّ بكم من جراح، أو قتلٍ، وفَقْد للأحباب، ومن صور افتتان الخلق بالخلق: أن تفتن بظالم يسلط عليك، فيؤذيك في نفسك، ويسلبك راحتك، ويقلقك في ليلك ونهارك، لذا كان من دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الممتحنة:5، ومن دعاء قوم موسى (عليه السلام): {عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } يونس:85، ومن دعاء بعض السلف: (ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا)
ومن صور افتتان الخلق بالخلق: أن تفتتن بجار سوء، لا يقيم للجيرة وزناً ولا اعتباراً، ولا يرعى لك حرمة ولا مقداراً، يضيق عليك رحب بيتك، ويحاربك في أهلك وخاصة نفسك، إذا ما خرجت من بيتك، وقع نظرك عليه؛ فضاقت نفسك، وإن دخلت دارك، لم تأمن بوائقه، وإذا ما غبت عن بيتك، لم تأمنه على مالك وأهل بيتك، فأعظم بها من فتنة، وأكبر به داعية هم، وسبب قلق، فالفتن من حولنا متوزعة في كل جهة، ومتناثرة في كل مكان ، فما الحل إزاء ذلك؟، الحل واحد: {أَتَصْبِرُونَ}؟؟، (الصبر والدعاء)، وإن تصبروا على ذلك كله، وتتقوا الله بلزوم طاعته، واجتناب معصيته، فإن ذلك من الأمور التي يُعزم عليها، وينافس فيها، قال تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (17) لقمان، وقد أرشدنا الله – سبحانه – إلى العلاج الذي يعين على التغلب على هذا البلاء وتلك الفتن، فقال تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (186) آل عمران، أي: وإن تصبروا على تلك الشدائد، وتقابلوها يضبط النفس، وقوة الاحتمال، ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ الله في كل ما أمركم به، ونهاكم عنه، تنالوا رضاه – سبحانه – وتنجوا من كيد أعدائكم، والإشارة في قوله: ﴿فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور﴾؛ أي: إن صبركم وتقواكم من الأمور التي يجب أن يسير عليها كل عاقل؛ لأنها تؤدى إلى النجاح والظفر، كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:155].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةٌ، أَتَصْبِرُونَ؟؟)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
إنها سنة مِن سنن الله، سنة مقدَّرة مقصودة، لها غايتها المرسومة من الله، فالدنيا دار بلاءٍ وامتحان، أراد – سبحانه – أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض، على العموم في جميع الناس، فكل واحد مختبر بصاحبه، لذلك كان جزاء من سار على منهج الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة:155-157].
فلا تصاب -أيها المؤمن، وأيتها المؤمنة- بالجزع مما يصيبنا، بل يجب علينا إدراك الغاية والحكمة من الابتلاء والفتنة: فهذه الاختبارات هي من الله لنا للامتحان، فيجب علينا اجتياز هذه الامتحانات بالطريقة التي حدَّدها منهج الله في القرآن والسنة النبوية، لذلك علينا البحث فيهما عن كيفية التعامل في مثل هذه المواقف، ولا نتَّبع هوى النفس أو شياطين الإنس والجن لاجتياز هذه الاختبارات، فيكون مصيرنا إلى النار، ويجب أن تكون نيتنا في اجتياز هذه الاختبارات مرضاة الله لا سواه، ويجب الاستعانة بالله في كل خطواتنا في التعامل مع هذه الاختبارات: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5]. والاستعانة بالصبر والصلاة، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (45)، (46) البقرة، وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (153) البقرة، وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام:153].
الدعاء