خطبة عن الْفقرُ إلى الله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ)
يناير 4, 2017خطبة عن (تأملات في قوله تعالى: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ)
يناير 8, 2017الخطبة الأولى ( تأملات في قوله تعالى 🙁 زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 14- 17].
إخوة الإسلام
في هذه الآيات المباركات يخبرنا الله سبحانه تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ، وقد بدأ الله سبحانه وتعالى بالنساء لأن الفتنة بهن أشد من غيرهن ، ففي الصحيحين (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ – رضى الله عنهما – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ » ، وأما إذا كان القصد بهن العفاف، وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ». وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة، فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل، وتكثير امة محمد -صلى الله عليه وسلم- ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح، روى الإمام أبوداود في سننه عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ وَإِنَّهَا لاَ تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا قَالَ « لاَ ». ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ « تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّى مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ ». وحب المال كذلك، تارة يكون للفخر والخيلاء، والتكبر على الضعفاء، والتجبر على الفقراء، فهذا مذموم، وتارة للنفقة في القربات وصلة الأرحام، والقرابات ووجوه البر والطاعات، فهذا ممدوح شرعًا ، وقوله تعالى: ﴿ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ﴾ [آل عمران: 14] ،فهو المال الكثير كما قال الربيع بن أنس، وقوله تعالى: ﴿ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ﴾ [آل عمران: 14] ، قال ابن جرير: “المعلمة بالشيات الحسان الرائعة حسنًا لمن رآها” ، وتريبة الخيل أنواع، روى مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْخَيْلُ قَالَ « الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ هِىَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ وَهِىَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ وَهِىَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ فَأَمَّا الَّتِى هِىَ لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنِوَاءً عَلَى أَهْلِ الإِسْلاَمِ فَهِىَ لَهُ وِزْرٌ وَأَمَّا الَّتِى هِىَ لَهُ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِى ظُهُورِهَا وَلاَ رِقَابِهَا فَهِىَ لَهُ سِتْرٌ وَأَمَّا الَّتِى هِىَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ فِى مَرْجٍ وَرَوْضَةٍ فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٌ وَكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا حَسَنَاتٌ وَلاَ تَقْطَعُ طِوَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا وَأَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ وَلاَ مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلاَ يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ » ،وقوله تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾ [آل عمران: 14]، فالأنعام: الإبل والبقر والغنم، والحرث الأرض المتخذة للغراس والزراعة، ،ثم قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [آل عمران: 14]، أن إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الزائلة، ﴿ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، أي حسن المرجع،
أيها المسلمون
ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى ركب في كيان الإنسان هذه الشهوات، وقد يَفهم البعض أن هذه الشهوات هي أساس فساد العالم، والحقيقة عكس ذلك، فلولا شهوة الطعام ما امتدت إليه أيدينا ، ولولا شهوة الفرج ما كان الزواج والنسل ، ولولا شهوة المال ، ما عمل عامل ، فهذه الشهوات بمثابة محرك يحرك هذه المركبة، والإسلام جاء لا ليحرم الشهوات ، ولكن ليضبطها ،وليقنن لها وسائلها وسبلها وطريقها الصحيح ، ويهدي إلى طريقها المشروع ، فقبل الإسلام، كان الجاهلون يرتعون في الشهوات، وكانت الفواحش منتشرة فيهم، وكان للمومسات أعلام ورايات، فجاء الإسلام فهذّب هذه الغريزة، وحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فجاءت الشريعة بموافقة الطبع في تلبية رغبة الجسد، وهذه الشهوة بمشروعية النكاح، فكان فيه تلبيةً لحاجة الجسد وإراحة له، وإعفاف للزوج والزوجة، وتكثير للنسل، وابتغاء للولد، وقرة عين في ذلك، وتلبية لحاجة النفس للاستمرار والخلافة، فيكون الأولاد بعد أبائهم استمراراً لنسلهم، وحملاً لاسمهم، وعنوانا على وجودهم واستمرارهم في هذه الحياة. فهذه الشهوات حيادية، إنها سُلَّم ترقى بها إلى الجنة ، أو دركات تهوي بها إلى النار، ففي صحيح مسلم : ( يقول صلى الله عليه وسلم ” (وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ « أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ ». إذاً فهذه الشهوات ، ليست هي سبب فساد العالم، ولكن سوء استخدامها هو سبب فساد العالم. فالشهوات التي أودعها الله فينا، قيَّدها في الوقت نفسه بمنهج رسمه الله لنا، فما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا ولها قناة نظيفة، لو سارت هذه الشهوة في خلال القناة الطاهرة المشروعة لآتت أكلها ضعفين، ولها أيضا طرق فاسدة نهايتها إلى النار ،فشهوة المال مثلا ، هي محببة إلى النفس ، فإذا اكتسبته من حلال وأنفقته في الحلال ارتقيت به إلى مرضاة الله إلى الجنة ، وإذا اكتسبته من حرام وبخلت به أو أنفقته في الحرام قادك إلى النار ،وأودع الله فيك شهوة الفرج وحبَّ النساء، فلولا أنك تحب النساء ومررت في طريق على امرأة سافرة وغضضتَ بصرك عنها لا ترقى إلى الله، بل إن هذه الشهوات ترقى بها إلى الله مرتين، ترقى بها مرة صابراً ومرة شاكراً، فإذا نظرت إلى ما يحل لك ترقى شاكراً، وإذا غضضت عما لا يحل لك ترقى صابراً، وهكذا بقية الشهوات ، فلولا الشهوات لما ارتقيت إلى رب الأرض والسماوات، فالمؤمن يعلم بأن الله تعالى حكيم، وأنه -عز وجل- عليم، وأنه تبارك وجلّ خبير، وقد اقتضت حكمة العليم الخبير الحكيم أن تكون هذه الغريزة في الإنسان، ومن تأمل عرف حكم لله في ذلك، فمنها :
أنه لا بقاء للنوع الإنساني بدونها، إذا ما الذي يدفع للزواج ليأتي الولد ؟ هذه الشهوة، فلولا وجودها لضعف هذه المبتغى فلا يكون من كثرة البشر وتناسلهم، ما أراده الله تعالى لعمارة كل هذه الأرض، ثم إن لهذه الغريزة أيضاً فائدة عظيمة أخرى في الدار الآخرة، فإن الله جعل في الجنة شهوات طيبةً مباركةً عظيمةً بليغةً، يكافئ بها أهل طاعته، وينعم عليهم بلذاتٍ مما تشتهي الأنفس، لا تخطر على قلب بشر، وجعل في الأرض ما يذكر بتلك اللذات والشهوات في الجنة ، ففي الأرض فاكهة ونخل ورمان، ولكن ما في الجنة من ذلك أعلى، وفي الأرض أنهار وأشجار ومساكن، وفي الجنة ما هو أفضل من ذلك وأعلى، وفي الأرض نساء وشهوة وما في الجنة من شهوة حور العينِ ولذة غشيانهن ما هو أعلى وأجلى وأغلى بكثير، ولذلك كانت سلعة الله غالية، سلعة الله الجنة، فيتذكر العبد باللذة الحاصلة من الشهوة في الدنيا، أنه هناك شهوات أعلى وأجلى وأطيب، خالية من المكدرات والمنغصات في جنات النعيم، ولذلك يصبر المؤمنون على المحرمات ابتغاء تلك اللذة في جنة الخلد، وما الذي يصبرهم عن وطأة هذه الشهوات في الدنيا المحرمة، ومقاسات لألام المجاهدة، إلا تذكر هذه اللذات التي جعله الله في جنته، ووضع هذه الغريزة في النفس يؤدي إلى قيام العبد في مقام الابتلاء، وهو مقام يريده الله، لأن السلعة الغالية ينبغي أن لا ينالها كل أحد، وهذه الجنة الشريفة لا يصلح أن يدخلها من هب ودب، فلا بد من تنقية، واصطفاء، واختبار، يكون بعده من يدخلها أهل لها، فوجود هذه الشهوات اليوم في الدنيا هو معبر وبوابة اختبار وابتلاء، من جاوزها كان أهلاً لدخول الجنة ومن سقط في هذا الاختبار سقط في عذاب الله من الجحيم والنار التي تلظى،
أيها المسلمون
ومن عجيب خلق الله تعالى أنه خلق الخلق من حيث وجود الشهوة على ثلاثة أصناف : قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ” قال قتادة : خلق الله سبحانه الملائكة عقولا بلا شهوات ، وخلق البهائم شهوات بلا عقول ، وخلق الانسان وجعل له عقلا وشهوة ، فمن غلب عقله شهوته فهو مع الملائكة ، ومن غلبت شهوته عقله فهو كالبهائم ” ،وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : ” الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الانسان … فلا بد من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي ، فلا بد من ترتب آثار هاتين القوتين عليهما ولو لم يخلقا في الإنسان لم يكن إنساناً بل كان ملكاً ، فالترتب من موجبات الانسانية ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ » رواه الترمذي ،فالحكمة من تركيب الشهوة في الإنسان ، منها : 1) التكاثر والحفاظ على النسل ، 2) الابتلاء والامتحان : ولهذا سئل عمر بن الخطاب : أيما أفضل؟ رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله ، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله ؟ فكتب عمر : إن الذي تشتهى نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ” ، 3) الإقبال على الله والانكسار بين يديه : فإنه وقوع العبد في آثار الشهوة من الذنوب من أسباب التوبة والندم والانكسار والذل لله تعالى . وقال أيضاً : العبد قد بلي بالغفلة والشهوه والغضب ، ودخول الشيطان على العبد من هذه الابواب الثلاثة ، فإذا أراد الله بعبده خيرا فتح له من ابواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجأ إليه ودوام التضرع والدعاء و التقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به رحمة ، حتى يقول عدو الله: يا ليتنى تركته ولم أوقعه . وهذا معنى قول بعض السلف : إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة يدخل بها النار . قالوا : كيف؟ قال :يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقا وجلا باكيا نادما مستحيا من ربه تعالى ناكس الراس بين يديه منكسر القلب له فيكون ذلك الذنب انفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الامور التي بها سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة . ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول : فعلت وفعلت فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه . 4) التشويق إلى ثواب الآخرة ، .فإن الإنسان إذا أدرك شيئاً من لذات الدنيا قاس عليه من باب أولى اللذة التامة في الآخرة فيعظم طلبه لها .
أيها المسلمون
هكذا تبين لكم أن الشهوات أوجدها الله سبحانه وتعالى فينا لحكمة أرادها ، ولها طريقان ، محمود ومذموم ، فعن طريقها المحمود قال تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) طه (123) ، وعن طريقها المذموم قال سبحانه : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (59) مريم
والسؤال : ماهي عواقب اتباع الشهوات ، والسير في غير ما أحل الله وشرع ، 1) مرض القلب : ومرض القلوب نوعان مرض شبهة وشك ، ومرض شهوة وغي وكلاهما في القرآن قال تعالى في مرض الشبهة (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) البقرة (10) ، وأما مرض الشهوات فقال تعالى(يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) الأحزاب 32، فهذا مرض شهوة الزنا ،والعبد الأسير هو أسير شهوته وهواه ، ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه وسامه سوء العذاب وصار كعصفور في كف طفل يسومها حياض الردى ،2) ومن عواقب اتباع الشهوات : الضلال عن الحق بسبب سكر الشهوة : قال تعالى في قوم لوط (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) الحجر (72) . وهذا السكر أشد من سكر الخمر ، فإن سكر الخمر يكون يوما أو قريبا من يوم ، وأما سكر الشهوة والمحبة الفاسدة فقوي دائم ، 3) ومن عواقب اتباع الشهوات : أن الشهوة بريد الكفر والخروج عن الدين : فإن الشهوة خطوة من خطوات الشيطان التي يتدرج بالعبد عن طريقها حتى يفسد عليه دينه وقد يخرجه منه . قال عدي ابن ثابت : ( كان في زمن بني إسرائيل راهب يعبد الله حتى كان يؤتى بالمجانين يعوذهم فيبرأون على يديه وإنه أتي بامرأة ذات شرف من قومها قد جنت وكان لها إخوة فأتوه بها فلم يزل الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت فلما استبان حملها لم يزل يخوفه ويزين له قتلها حتى قتلها ودفنها فذهب الشيطان في صورة رجل حتى أتى بعض إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب ثم أتى بقية إخوتها رجلا رجلا فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئا كبر علي ذكره فذكر ذلك بعضهم لبعض حتى رفعوا ذلك إلى ملكهم فسار الناس إليه حتى استنزلوه من صومعته فأقر لهم بالذي فعل فأمر به فصلب فلما رفع على الخشبة تمثل له الشيطان فقال أنا الذي زينت لك هذا وألقيتك فيه فهل أنت مطيعي فيما أقول لك وأخلصك قال نعم قال تسجد لي سجدة واحدة فسجد له وقتل الرجل فهو قول الله تعالى كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ) روضة المحبين ، 4) ومن عواقب اتباع الشهوات : الحجب عن الرب جل وعلا : فإن العبد إذا قدم شهوته على مراد ربه عرض نفسه للحجب والجفاء بينه وبين ربه . فإن أراد الله خذلانه وكله إلى شهوته وتركه محجوباً عنه . وإن أراد الله عصمته نغص عليه الشهوة وحال بينه وبين اللذة المحرمة حتى لا تكون حجاباً بينه وبينه . 5) ومن عواقب اتباع الشهوات : إدمان الشهوة وتعلق القلب بها : فمدمنو الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها. ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ به عشر معشار التذاذ من يفعله في بعض الأحيان . 6) ومن عواقب اتباع الشهوات : الغفلة عن ذكر الله والصلاة : لأن العبد إذا قهر شهوته وهواه قوي قلبه على الصلاة والخشوع فيها ، وهذا بخلاف من قهرته الشهوة وأسره الهوى ووجد الشيطان فيه مقعدا فإنه لا يمكن أن يتخلص من الوساوس والافكار ، 7) ومن عواقب اتباع الشهوات : الشقاء والحسرة في الدنيا : فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس وشهوة عاجلة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها . 8) ومن عواقب اتباع الشهوات : العقوبة عند الموت : فسيجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا فى قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمه اللذيذة إذا انتهت إلى غايتها . 9) ومن عواقب اتباع الشهوات : العقوبة في البرزخ : ففي صحيح البخاري : ( عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ ….قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم « لَكِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي ، فَأَخْرَجَانِي ……ثم قال صلى الله عليه وسلم .. انْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ ، أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا ، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا ، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا ، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ . فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ .. وفي رواية (فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ – قَالَ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ – فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ – قَالَ – فَاطَّلَعْنَا فِيهِ ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا – قَالَ – قُلْتُ لَهُمَا مَا هَؤُلاَءِ قَالَ قَالاَ لِي انْطَلِقِ انْطَلِقْ )..ثم قال صلى الله عليه وسلم .. قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِى اللَّيْلَةَ ، فَأَخْبِرَانِى عَمَّا رَأَيْتُ . قَالاَ نَعَمْ …وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ ) فالجزاء من جنس العمل ، فهؤلاء كانوا في الدنيا كلما هموا بالتوبة والإقلاع والخروج من تنور الشهوة إلى فضاء التوبة عادوا إليه فكان هذا عذابهم في تنور الآخرة . 10) ومن عواقب اتباع الشهوات: العذاب في النار : ففي صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ».
أيها المسلمون
وإذا كانت هذه عقوبة من تبع الشهوات ، فما هي ثمرات الانتصار على الشهوات ؟ فللانتصار على الشهوات عدة ثمرات في الدنيا والآخرة ، ومنها : 1) سلامة القلب : فالقلب السليم هو القلب الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره ،2) ومن ثمرات الانتصار على الشهوات : علو النفس والالتحاق بالملأ الأعلى : فالإنسان منا إذا غلب صبره باعث الهوى والشهوة التحق بالملائكة وان غلب باعث الهوى والشهوة صبره التحق بالشياطين وان غلب باعث طبعه من الأكل والشرب والجماع صبره التحق بالبهائم . 3) ومن ثمرات الانتصار على الشهوات : النجاة من عذاب الله :فإذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم إنما نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه ، والشاب المؤثر عبادة الله على داعي شبابه لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك ، والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات ، والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك ، والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله عز وجل وخالف هواه ، والذي ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه من خشيته إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة . قال أبو سليمان الداراني : ومن ترك لله شهوة من قلبه فالله أكرم أن يعذب بها قلبه ، 4) ومن ثمرات الانتصار على الشهوات : دخول الجنة : قال تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) النازعات 40 ، 41 . 5) ومن ثمرات الانتصار على الشهوات : كمال الإيمان ولذة الأنس بالله والشوق إليه :
فإن لذة الأنس بالله والشوق إليه والفرح والابتهاج به لا تحصل في قلب فيه غيره ، وإن كان من أهل العبادة والزهد والعلم .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( تأملات مع قوله تعالى 🙁 زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ثم نأتي إلى وسائل مدافعة الشهوات ، وأذكر لكم منها : 1) من وسائل مدافعة الشهوات :حسم مادة الشهوة وتضييق مجاريها ، فينظر الانسان إلى مادة قوة الشهوة فيقللها ،أو يصوم ، فكما في البخاري (عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ بَيْنَا أَنَا أَمْشِى مَعَ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنه – فَقَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ » ، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى الدواء الشافي الذي وضع لهذا الأمر [أي الزواج] ثم نقلهم عنه عند العجز إلى البدل وهو الصوم فإنه يكسر شهوة النفس ويضيق عليها مجاري الشهوة فإن هذه الشهوة تقوى بكثرة الغذاء وكيفيته • ومن وسائل مدافعة الشهوات :الختان : فمع ما في الختان من الطهارة والنظافة والتزيين وتحسين الخلقة ، فهو أيضا لتعديل الشهوة … ولهذا تجد الأقلف من الرجال والقلفاء من النساء لا يشبع من الجماع . 2) من وسائل مدافعة الشهوات :قطع الأسباب المهيجة للشهوة : مثال ( غض البصر عن النساء الأجنبيات ، ترك مواطن الشبهات والشهوات المحرمة ، البعد عن مجالس اللهو والرقص والغناء ، …. ) ، من وسائل مدافعة الشهوات : التسلي عن الشهوة بجنسها من المباحات ، ففي صحيح مسلم ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى امْرَأَةً فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهْىَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ « إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ » ، 4) من وسائل مدافعة الشهوات :الصبر : فالصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة . فإنها أما أن توجب ألما وعقوبة وإما أن تقطع لذة أكمل منها وإما أن تضيع وقتا ، وأما أن تثلم عرضا ، وأما أن تذهب مالا ، وإما أن تضع قدرا وجاها ، وأما أن تسلب نعمة ، وإما أن تنسى علما ، أو تحرم رزقا ، أو تجلب هما وغما وحزنا وخوفا لا يقارب لذة الشهوة ، 5) من وسائل مدافعة الشهوات : تعبد الله تعالى بأسمائه وصفاته : و يكون بأمور منها : أ – إجلال الله تبارك وتعالى أن يعصى وهو يرى ويسمع ومن قام بقلبه مشهد إجلاله لم يطاوعه قلبه لذلك البتة ، ب – محبته سبحانه فيترك معصيته محبة له فإن المحب لمن يحب مطيع وأفضل الترك ترك المحبين كما أن أفضل الطاعة طاعة المحبين فبين ترك المحب وطاعته وترك من يخاف العذاب وطاعته بون بعيد،
ج – شهود نعمته وإحسانه فإن الكريم لا يقابل بالاساءة من أحسن اليه وانما يفعل هذا لئام الناس فليمنعه مشهد إحسان الله تعالى ونعمته عن معصيته حياء منه أن يكون خير الله وإنعامه نازلا اليه ومخالفاته ومعاصيه وقبائحه صاعدة إلى ربه فملك ينزل بهذا وملك يعرج بذاك فأقبح بها من مقابلة ، د – شهود غضبه وانتقامه فإن الرب تعالى إذا تمادى العبد في معصيته غضب واذا غضب لم يقم لغضبه شيء فضلا عن هذا العبد الضعيف ، 6) من وسائل مدافعة الشهوات : استشعار فوات وصف الإيمان الكامل : ففي الصحيحين (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – إِنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « لاَ يَزْنِى الزَّانِي حِينَ يَزْنِى وَهْوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ » ،قال بعض الصحابة : ينزع منه الإيمان حتى يبقى على رأسه مثل الظلة فإن تاب رجع اليه . وقال بعض التابعين ينزع عنه الإيمان كما ينزع القميص فإن تاب لبسه . 7) من وسائل مدافعة الشهوات : استشعار العوض : فإن من ترك شيئاً لله بدله الله خيراً منه . 8) من وسائل مدافعة الشهوات : تذكر الموت والدار الآخرة : والتفكر في الدنيا وسرعة زوالها وقرب انقضائها . كان أبو الدرداء يقول : لو تعلمون ما أنتم لا قون بعد الموت لما أكلتم طعاما على شهوة ولا شربتم شرابا على شهوة ولا دخلتم بيتا تستظلون فيه ولخرجتم الى الصعدات تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم ولوددت أني شجرة تعضد ثم تؤكل 0 وفي جامع الترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلاَّ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَلَكِنِّى سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ لاَ يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ أُرْعِدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ أَأَكْرَهْتُكِ قَالَتْ لاَ وَلَكِنَّهُ عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلاَّ الْحَاجَةُ فَقَالَ تَفْعَلِينَ أَنْتِ هَذَا وَمَا فَعَلْتِهِ اذْهَبِي فَهِي لَكِ. وَقَالَ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَعْصِى اللَّهَ بَعْدَهَا أَبَدًا. فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِلْكِفْلِ » ، 9) من وسائل مدافعة الشهوات : تدبر القرآن والعمل به :فالقرآن شفاء لمرض الشهوات بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة . 10) من وسائل مدافعة الشهوات : الدعاء والانكسار بين يدي الله :فعلى العبد أن يتعرض إلى من القلوب بين أصبعيه وأزمة الأمور بيديه ، لعله يصادف نفحة رحمانية ، وساعة من الساعات التي لا يسأل الله فيها شيئا الا أعطاه.
أيها المسلمون
وعودة إلى الآيات التي استهللنا بها حديثنا ،قال تعالى: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ ﴾ [آل عمران: 15] أي قل يا محمد للناس الذين زين لهم حسب الشهوات من النساء والبنين، وسائر ما ذكرنا: أأخبركم وأعلمكم بخير وأفضل لكم منذ لك كله؟! ﴿ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [آل عمران: 15]، فجزاء المتقين جنات وأنهار العسل واللبن والخمر والماء، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ [آل عمران: 15]، أي ماكثين فيها أبد الآباد، ﴿ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾ [آل عمران: 15]، أي من الدنس والخبث والأذى، والحيض والنفاس، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [التوبة: 72] أي: أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم، ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15]، أي: يعطي كلًا ما يستحقه من العطاء. فالله تعالى بعد ذكره الموازنة بين متع الدنيا ونعيم الآخرة، ذكر صفات المتقين الذين آثروا نعيم الآخرة الباقي على متع الدنيا الزائلة، فاسمع لصفاتهم، وتمثلها في نفسك، عسى أن تكون منهم فتفوز فوزًا عظيمًا. فأولها : الإيمان بالله وبرسله وكتبه، المتضمن الإيمان باليوم الآخر، وما أعد الله فيه للمؤمنين من الفضل العظيم، وما أعد للكافرين الغافلين من العقاب الأليم. ثانيها : اعترافهم بذنوبهم، وعلمهم أنه لا يغفرها إلا الله ربهم. ثالثها : إيمانهم بالنار وعذابها، وسؤالهم ربهم أن يقيهم منها. رابعها: صبرهم عن شهوات الدنيا وملذاتها، إيمانًا منهم بأن الله سيعوضهم خيرًا منها، والصبر من أفضل خصال الإيمان، ولا يتم إلا باستكمال أركانه الثلاثة، وهي الصبر على طاعة الله، والصبر على معاصي الله، والصبر على أقدار الله. خامسها : الصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والصديقون مع الأنبياء والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا. سادسها : قنوتهم لله رب العالمين، وذلك يقتضي محبتهم له، وانكسارهم بين يديه، والتجاءهم إليه رغبة ورهبة وخشوعًا. سابعها : إنفاقهم في سبيل الله ابتغاء مرضاته، لا رياء وسمعة. ثامنها : طلبهم المغفرة من ربهم في وقت الأسحار، حين ينزل الرب إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، كما في صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ ». ويقول تعالى : ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].
الدعاء