خطبة عن (هجر القرآن)
يناير 19, 2025الخطبة الأولى (تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى ابن ماجه في سننه وصححه الألباني: (عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ فَتَعَلَّمْنَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا».
إخوة الإسلام
لقد كان الصَّحابةُ (رِضوانُ اللهِ تعالى عليهم) يَتعلَّمونَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاليمَ الدِّينِ الاسلامي تدريجيًّا، فالمطَّلِع على سيرةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصحَابَتِهِ رضيَ اللهُ عَنهم، يجدُ أنه كان يُعلِّمُهم أصولَ الإيمان، من خلال أحواله وأفعاله وأقواله، فلربما أرشدَهم إلى الحقيقة، عن طريق تساؤلات وأمثلة، ليست من نصوص القرآن، لكنها نابعة من تعاليمه وهَدْيه، وبهذا يكونون قد تعلُّموا الإيمان والتصديق والاستسلام قبل القرآن، ثم تعلُّموا القرآن ليُعطِيَهم العلْمَ المفصَّل، فيزدادوا إيمانًا مع إيمانهم،
وكان الصحابة الكرام كل هَمُّهم تطبيقَ ما تعلَّموه، ثمَّ ينتقِلونَ بعد ذلك إلى أمْرِ آخرَ من أمور الدين، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلمهم، ويُلاحِظُهم، ويَهْديهم بالرِّفقِ واللِّينِ، ويأمُرُهم بعدَمِ التَّشدُّدِ، فازدادوا إيمانًا بتعلُّم القرآن مع إيمانهم، فكانوا أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وقد أخرج البيهقي، وسعيد بن منصور، وغيرهما: (عنْ أَبِي السَّفَرِ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: (إِنَّا قَوْمٌ أُوتِينَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نُؤْتَى الْقُرْآنَ، وَإِنَّكُمْ قَوْمٌ أُوتِيتُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُؤْتَوَا الْإِيمَانَ).
ومن هذا نعلم: أنه يجب على كل مؤمن أن يتعلم العقيدة الصحيحة، ويحقق أعمال القلوب الواجبة، ويعمل بطاعة الله تعالى، مستسلما ومخلصا له الدين- وتاركا لمعاصيه، فإنه إذا تعلَّم بعد ذلك القرآن، وتفسيره، ومعرفة أحكامه، فإنه يزداد بذلك إيمانًا مع إيمانه؛ وهداية مع هدايته، ونورا مع نوره، قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (2) الأنفال،
وقد أورَدَ الحاكمُ مِن رِوايةِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ خبرًا يُوضِّحُ هذه المعاني، فيقولُ: “لقد عِشْنا بُرهةً مِن دَهْرِنا، وإنَّ أحدَنا يُؤْتَى الإيمانَ قبلَ القُرآنِ، وتنزِلُ السُّورةُ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيتَعلَّمُ حلالَها وحَرامَها، وما ينْبَغي أنْ يُوقَفَ عندَه فيها كما تَعلَّمونَ أنتم القُرآنَ”، ثمَّ قال: “لقد رأيْتُ رِجالًا يُؤْتَى أحدُهم القُرآنَ، فيقرَأُ ما بين فاتحتِه إلى خاتمتِه ما يَدري ما أمْرُه ولا زاجِرُه، ولا ما ينْبَغي أنْ يُوقَفَ عنده منه، ينثُرُه نثْرَ الدَّقَلِ”، (وهو الرَّديءُ مِن التَّمرِ وما لا فائدةَ فيه)،
فالصحابة (ولنا فيهم الأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة) تعلَّموا أساسياتِ العقيدةِ الصَّحيحةِ، وهي أركانُ الإيمانِ الحقِّ: (الإيمانُ باللهِ، وملائكتِه، وكُتبِه، ورُسلِه، واليومِ الآخِرِ، والإيمانِ بالقَدَرِ خَيرِه وشرِّه)، تَعلَّموا ذلك وهم صِغارٌ، أو في بداية اسلامهم، “ثمَّ تعلَّمْنا القُرآنَ، فازْدَدْنا به إيمانًا”، أي أنَّهم لمَّا تَلُوا وقرَؤوا كِتابَ اللهِ، وتدارَسُوه فيما بينهم، ازدادَ إيمانُهم، وقوِيَت عقيدتُهم، وهذا معنى قولِه تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. فتعلُّم الصحابة الإيمان قبل استكثارهم من الحفظ، وتربوا على فعل الطاعات، وترك المنكرات ،والشوق إلى الجنة، والخوف من النار، وهم في بداية اسلامهم، (فعن عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قالت: ” إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ ، نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ) رواه البخاري. والإيمان قبل القرآن؛ يتحصّل بأن يربّي المؤمن نفسه على العقائد والشرائع التي جاء بها القرآن؛ ويأخذ ذلك بعزيمة وقوة؛ فإذا شرع بعد ذلك في الاستكثار من حفظ آيات القرآن ؛حفظه وهو يشعر أنه مخاطب بها؛ فيتمعن ويتدبر فيما يحفظ، ويخاف أن يكون حجة عليه، فيسارع للامتثال بما حفظ.
أيها المؤمنون
فواجب على كل مسلم أن يتعلم أصول الإيمان تعلما عمليا، وذلك من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أحواله، وأفعاله، وتأديبه لأصحابه بأدب الدين؛ فتحصل بذلك له المعرفة بمعاني القرآن، وواجب على كل مسلم: أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملأ قلبه بما يحبه الله، وأن يفرغ قلبه من عبادة غير الله، ويخرج عنه خوف من المخلوقين، ويدخل فيه الخوف من الله تعالى، وينفي عنه التوكل على غير الله، ويثبت فيه التوكل على الله، وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان، الذي يمده القرآن ويقويه، لا يناقضه وينافيه.
وعلى المسلم أن يبدأ بالتفقه والتعلم بمعرفة أسماء الله وصفاته، ودراستها دراسة ربَّانية، تقوم على تجذير الإحساس بها في القلب، قبل الخوض في الجدل مع المخالفين والمنحرفين، وعليه أن يتعرَّف إلى الله بآياته وكلماته وأفعاله، معرفةً تُورِّث الحب، فالحب هو أعظم مكونات العبودية، وله النصيب الأوفر، والحظ الأكثر، فهو كالرأس للطائر، ويأتي بعد ذلك الرجاء والخوف، وهما متعادلان متساويان كالجناحين، فحين تعرف ربك، وتشاهد رحمته وفضله، وسعته وكرمه، وتعرف عطاءه وجوده، وتعرف عقابه وعذابه للمعاندين، فسوف تعتدل كفة الأحكام عندك، وتعطي كل ذي حق حقه، وستتوازن في عنايتك بالباطن والظاهر، وتتوازن في مراقبة نفسك قبل مراقبة الآخرين، فالإيمان أولاً؛ هو الشعار الذي يجب أن تقوم عليه التربية، والدعوة والتعليم، ثم تبنى المسائل العملية على ذلك الأساس المتين، بلا إفراط ولا تفريط، فطريق السلف البدء بالإيمان، وعدم مجاوزة الآيات، إلا بعد تحصيل ما فيها من الإيمان، فمن قدر على هذا الطريق، فلا يعدل به غيره، ومن عجز، فليسدد وليقارب ،فيحفظ ما استطاع، ويجتهد أن يلحق العمل بما حفظه، ولا يكتفي بالحفظ فقط.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقد تشيع الثقافة الدينية في مجتمعٍ ما، ولكن هذا لا يعني أن الناس أصبحوا متدينين حقاً، حتى يصرفوا الجهد الكبر والأعظم والأطول لمسألة الإيمان القلبي الصادق العميق؛ الذي يصل العبد بربه خضوعاً وخشوعاً ومحبةً ورجاءً وخوفاً، وإدراكاً لحكمته في الأقدار، وإيماناً بوعده ووعيده، وأخباره وأحكامه، حتى لو لم يعلمها تفصيلاً فهو مستعدٌ للإيمان بها وامتثالها والاستسلام لمقتضياتها، وفي قوله سبحانه: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} (هود:17). أشار ابن تيمية إلى أن البيِّنة هي الإيمان، والشاهد الذي يتلوه هو القرآن، وفي قوله تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} (النور:35). قال: نور الإيمان، ثم نور القرآن.
فأين الدروس التي تزرع فينا حب الله منذ نعومة أظفارنا؟، وأين المجالس التي تملأ جوانحنا بتعظيمه ورجائه وخشيته؟، وأين الحلقات التي تحبب إلينا شخص نبينا الكريم وسيرته وسنته؟، وأين نتعلّم مكارم الأخلاق، والآداب في اللسان والجوارح؟، وأين نجد رياض الجنة التي تصلنا بالله وتُعزز إيماننا، وتصلنا بالقرآن كما أُنزل، لا تقتصر على أحكام الحلال والحرام أو معرفة المفردات أو الإعراب فحسب؟
الدعاء