خطبة عن (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)
مايو 16, 2023خطبة عن المؤمنين حقا ، وقوله تعالى ( أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا )
مايو 20, 2023الخطبة الأولى (جهاد النفس)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (40)، (41) النازعات، وروى الإمام أحمد في مسنده وصححه الألباني: (قَالَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ: مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ».
إخوة الإسلام
قال الله تعالى في محكم آياته: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } (الحج:78)، فهذا أمر لعموم المسلمين بالجهاد، ومن المعلوم أن الجهاد أربع مراتب: أولها: جهاد النفس. ثانيها: جهاد الشيطان. وثالثها: جهاد الكفار. ورابعها: جهاد المنافقين.
والأصل والأساس هو جهاد النفس. فإن العبد إذا لم يجاهد نفسه أولاً، فيلزمها بفعل ما أمره الله به، وترك ما نهى عنه، فلا يتمكن الانسان من جهاد عدوه الخارجي، مع ترك العدو الداخلي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتقدم: (وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ »، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة، كما في سنن الترمذي وغيره بسند حسنه: (وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا)، وفيه أيضا: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا حُصَيْنُ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ». قَالَ فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي. فَقَالَ «قُلِ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي»،
فمن لم يَسلم من شر نفسه، لم يصل إلى الله تعالى؛ لأنها تحول بينه وبين الوصول إليه، وجهاد النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها، ففي سنن الترمذي: (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ»، فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يأمر عبده بخوفه ونهي النفس عن الهوى، والعبد إما أن يجيب داعي النفس فيهلك، أو يجيب داعي الرب فينجو، والنفس تأمر بالشح وعدم الإنفاق في سبيل الله، والرب يدعو إلى الإنفاق في سبيله فيقول سبحانه: {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (التغابن:16).
والناس في هذا قسمان: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار مطيعاً لها. وقسم ظفر بنفسه، فقهرها حتى صارت مطيعة له، وقد ذكر الله القِسمين في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } (النازعات:37-41). فأعدى أعداء المرء نفسه التي بين جنبيه، فإنها تحثه على نيل كل مطلوب، والفوز بكل لذة ،حتى وإن خالفت أمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والعبد إذا أطاع نفسه وانقاد لها هلك، أما إن جاهدها، وزممها بزمام الإيمان، وألجمها بلجام التقوى، فإنه يحرز بذلك نصرًا، في ميدان من أعظم ميادين الجهاد. قال ابن بطال: “جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، ويقع بمنع النفس عن المعاصي، وبمنعها من الشبهات، وبمنعها من الإكثار من الشهوات المباحة لتتوفر لها في الآخرة”. وتكمن أهمية جهاد النفس: في أن صلاح نفس الإنسان يساهم بشكل كبير في صلاحه. وفي قربه من الله تعالى، فعندما تكون أنفسنا طاهرة وعلى طريق الهداية، نكون دائماً مع الله. والنفس النقية البيضاء تعمل لوجه الله، فيجازيها الله عز وجل على نقائها وطهرها. كما أن جهاد النفس يساعد في مقاومة الشيطان، وجهاده، والبعد عنه.
أيها المسلمون
وجهاد النفس أربع مراتب: أحدها: أن تجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق، الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين. المرتبة الثانية: أن تجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها. المرتبة الثالثة: أن تجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه. وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله. المرتبة الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله ، فإذا استكمل العبد المؤمن هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم فذلك يدعي عظيماً في ملكوت السموات. وفي وصية لقمان لابنه قال: (يا بني، إن الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حزون، فإن فتر سائقها ضلت عن الطريق، وإن فتر قائدها حزنت، فإذا اجتمعا استقامت ).
أيها المسلمون
ومما لا شك فيه أن في مجاهدة النفس صعوبة ومعاناة ومشقة، يجدها السائر إلى الله، في طريقه إلى الدار الآخرة، وخصوصا في أول الأمر، ولكن بالاجتهاد والمحاولة والتكرار والصبر، والاستعانة بالله تعالى؛ يسهل الصعب ويتيسر العسير. وهذه سنة الله في خلقه، فقد وعد الله سبحانه من جاهد فيه: أن يهديه سبيله، وينير له طريقه، كما قال تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” (العنكبوت:69)، وأقوى الأسلحة التي يستخدمها المسلم في مجاهدة نفسه: سلاح الصبر؛ فمن صبر على جهاد نفسه غلبها، وملكها، فصار ملكًا عزيزاً، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة نفسه، صار عبدًا ذليلاً أسيرًا لها، ومنها أيضا: الدعاء، والالتجاء إلى الله تعالى، والاستعانة بالصلاة، ففي صحيح مسلم: (قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي «سَلْ ». فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ «أَوَغَيْرَ ذَلِكَ». قُلْتُ هُوَ ذَاكَ. قَالَ «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».
أما عن ثمار مجاهدة النفس: فلا بدَّ لكل غرس من ثمار، فمن غرس في نفسه طيب العمل، وجاهدها، كان الحصاد طيبًا، ومن غرس الخبث لم يحصد إلا الندم، ومن ثمار المجاهدة: إخضاع النَّفْس والهوى لطاعة الله عزَّ وجلَّ. وإبعادها عن الشَّهوات، وصد القلب عن التَّمنِّي والتَّشهِّي. ومن ثمار المجاهدة: تعوُّد الصبر عند الشَّدائد على الطاعات وعن المعاصي. ومجاهدة النفس طريق قويم يوصِّل إلى رضوان الله تعالى والجنة. ومن ثمار المجاهدة: قمع الشيطان ووساوسه. وفي نهي النَّفْس عن الهوى خير الدنيا والآخرة. ومن جاهد نفسه وأدَّبَها سما بين أقرانه وفي مجتمعه. ومن ثمار المجاهدة: أن من يجاهد نفسه يمتلك ناصية الخير، ويصبح حسن الأخلاق. ويحقُّق إنكار الذَّات، وبمجاهدة النفس تصفي الجماعة من الأثرة الضارة بالجماعة والمجتمع
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( جهاد النفس )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن أقوال السلف الصالح وأحوالهم في المجاهدة: فقد سأل أحدهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن الجهاد فقال له: (ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها). وقال سفيان الثوري رحمه الله: (ما عالجت شيئا أشد علي من نفسي، مرَّةً لي ومرة علي). وقال الحسن رحمه الله: (ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام من نفسك). وقال يحي بن معاذ الرازي: (أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه، وشيطانه، ونفسه، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات). وقال ابن المبارك رحمه الله: فقوله صلى الله عليه وسلم: “إن النصر مع الصبر” يشمل النصر في الجهادين: جهاد العدو الظاهر، وجهاد العدو الباطن. فمن صبر فيهما نُصر، وظفر بعدوه، ومن لم يصبر فيهما وجزع قُهر وصار أسيرا لعدوه أو قتيلا له). وكان زياد بن أبي زياد – مولى ابن عياش – يخاصم نفسه في المسجد يقول: (أين تريدين؟ أين تذهبين؟ أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد؟ انظري إلى ما فيه، تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان؟)، وانظر إلى مالك بن دينار رحمه الله، وهو يطوف في السوق، فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه: اصبري؛ فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك عليَّ.
الدعاء