خطبة حول قوله تعالى ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)
يناير 31, 2023خطبة عن (إِغَاثَةُ الْمَلْهُوف )
فبراير 1, 2023الخطبة الأولى ( أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام مسلم في صحيحه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ »، وفيه أيضا: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ ( وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ).
إخوة الإسلام
الدعاء عبادة عظيمة؛ وهو من أجلّ القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) غافر (60)، فالدعاءُ شأنُه عظيمٌ، ومكانتُه ساميةٌ، ومنزلتُه عالية، ففي الدعاء يجد الداعي لروحه غذاء، ولنفسه دواء ،يدعم كيانها، ويقوى بنيانها، ويجعلها تتغلب على كل ما يؤثر عليها، فلا يتسرب إليها يأس، ولا يتملكها ضعف، ومِن لُطْفِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى بالعَبْدِ أنْ وَفَّقَه للعبادةِ وحُسنِ الدُّعاءِ، وجَعَل على ذلك الأجرَ الكبيرَ. وفي الدعاء استعانة عاجز ضعيف بقوي قادر، واستغاثة ملهوف برب رؤوف، قال تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]. وعَنْ سَلْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ” إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا) [ابن ماجة]، وعن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ) [مسند الإمام أحمد]، فالجأ أيها العبد إلى الله، وارفع أكف الضراعة إليه، وناد الكريم الرحيم، فإنه لا يخيب من دعاه، ولا يرد من سأله، قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ [النمل: 62]، ليس شيءٌ أكرَم على الله عز وجل من الدّعاء، وأعجَزُ الناس من عجَز عن الدعاء، ولا يردّ القدرَ إلا الدعاء.
أيها المسلمون
وفي هذا الحديثِ النبوي الكريم والذي هو بين أيدينا اليوم: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ»، فمِن دُعاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ) والاستِعاذةُ: هي اللجوء وطلب الحماية والحفظ والرعاية من القوي القادر، مِن ذَهابِ نِعَمِ الله سُبحانَه وتَعالَى، والاستِعاذَةُ مِن زَوالِ النِّعمِ تَتَضَمَّنُ الحِفْظَ منِ الوُقوعِ في المعاصي؛ لأَنَّها تُزيلُها، ونعم الله لا تُحصى ولا تُعدُّ، قال الله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) النحل (18)، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من زوال نعم الله تعالى؛ لأن ذلك لا يكون إلا عند عدم شكرها، فتضمّنت هذه الاستعاذة سؤال الله تعالى التوفيق لشكر النعم، والحفظ من الوقوع في المعاصي، قال اللَّه سبحانه وتعالى :﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ إبراهيم (7) ، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ): أي أسألك وألجأ إليك وأحتمي بك أن تسلب مني نعمك ،وأن تسلب مني فضلك بعد العطاء، ومن القبض بعد البسط ،ومن أعظم النعم وأجلها نعمة الاسلام والإيمان، فيا رب أعطيتني نعما كثيرة لا حصر لها، فأعوذ بك من زوالها، أعطيتني عقلا أعوذ بك أن تحرمنيه، وأعطيتني يدا أعوذ بك ان تأخذها، وأعطيتني سمعا وبصرا، ومالا وولدا، أعوذ بك من زوالها. وهكذا الحال في جميع النعم .
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ): فالتحول معناه: التغير والانتقال، فينتقل الإنسان من حال إلى حال، والمقصود: أعوذ بك أن تتحول عني عافيتك، فأنت يارب عافيتني في بدني، وعافيتني في سمعي وفي بصري، وعافيتني في عرضي، وفي مالي وفي أهلي.. وقبل هذا كله عافيتني في ديني ـ فأعوذ بك أن تحول عني عافيتك، أو أن تهتك عني سترك، أو ترفع عني هداك.. وقد روى البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لرجل سأله عن أفضل الدعاء) [سَلِ اللهَ العَفْوَ والعَافِيَةَ في الدنيا والآخِرَةَ، سَلِ اللهَ العَفْوَ والعَافِيَةَ في الدنيا والآخِرَةَ؛ فإِذَا أعطيتَ العافيةَ في الدنيا والآخرةِ فقد أفلحْتَ]. بل كان هو صلوات الله عليه لا يدع سؤال العافية في ليل أو نهار، كما جاء في صحيح سنن ابن ماجة (أن ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَع هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ « اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي». وتضمّنت هذه الاستعاذة سؤال اللَّه دوام العافية وثباتها، والاستعاذة به عز وجل من تحوّل العافية؛ لأن بزوالها تسوء عيشة العبد، فلا يستطيع القيام بأمور دينه ودنياه، وما قد يصاحب ذلك من التسخط وعدم الرضا، وغير ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ): فاستعاذَ مِن فُجاءَةِ النِّقمَةِ مِن بَلاءٍ أو مُصيبَةٍ، فالنِّقْمَةُ إذا جاءَتْ فَجأَةً وبَغتةً، لم يَكُنْ هُناكَ زَمانٌ يُستَدْرَكُ فيه، وكان المُصابُ بها أعظَمَ. فأعوذ بك أن أفاجأ بنقمة، أو مصيبة أو بلية تأتي على غير ميعاد أو توقع أو استعداد؛ فإن المصيبة إذا أتت فجأة من غير توقع ربما ذهل لها العقل، ووله لها القلب، ولم يطق صاحبها صبرا، إلا أن يتغمده الله برحمته. وأعوذ بك أيضا من العقوبة والانتقام بالعذاب مباغتة، دون توقع وتحسب، وخُصَّ فجاءت النقمة بالاستعاذة؛ لأنها أشد و أصعب من أن تأتي تدريجياً، بحيث لا تكون فرصة للتوبة.. وفي الصحيحين: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه – قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ «اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي». قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ .فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -. فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى».
أيها المسلمون
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وَجَمِيعِ سَخَطِكَ): أي: ألْتَجِئُ وأعتَصِمُ بكَ أنْ تُعيذَني مِن جَميعِ الأسبابِ الموجِبةِ لغَضَبِك جَلَّ شأنُكَ؛ فإنَّ مَن سَخِطْتَ عليه فقدْ خابَ وخَسِرَ؛ ولهذا أتى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بلَفظِ الجَمعِ؛ فهي استعاذةٌ مِن جَميعِ أسبابِ سَخَطِه سُبحانَه وتَعالَى مِن الأقْوالِ والأفْعالِ والأعْمالِ، وهو تَعميمٌ شامِلٌ لِكُلِّ ما سَلَفَ ولِغَيرِه. فأنا أعوذ من سخطك، سواء كان سخطا في مالي فأفتقر، أو في ديني فأضل، أو في عرضي فأنفضح. فأنا ألتجئ إليك وأعتصم بك وأتوسل إليك أن تعيذني من جميع الأسباب الموجبة لسخطك، والجالبة لغضبك جل شأنك، لأن من سخطت عليه فقد خاب وخسر، ولو كان في أدنى شيء، أو بأيسر سبب، فأنت القائل سبحانك: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} طه (81). وإذا انتفت الأسباب المقتضية للسخط حصلت أضدادها وهو الرضا.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن المؤمن يلجأ إلى الله تعالى في كل ما ينوبه، يقول الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله: «الآلام تكشف الضعف الإنساني، وتدفع العاقل دفعًا للوقوف بباب الله؛ يطلب العافية ويرجو رحمة ربه، ومطلوب من المؤمن أن يلجأ إلى الله في كل ما ينوبه، فإذا عظم الخطب اشتد إلى الله فزعه وطالت ضراعته»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»، فالمؤمن الذي يعمر الإيمان قلبه، يلجأ دائماً إلى الله تعالى في السراء والضراء، فهو يصبر على البلاء، ويرضى بالقضاء، ويشكر في الرخاء، ويسأله العون وتفريج الكروب، فهو على كل شيء قدير، لأن ثقته بالله عظيمة، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، ومع العسر يأتي اليسر.
الدعاء