خطبة عن حديث (لاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، أو يَتَعَرَّض لِمَا لاَ يُطِيقُ)
سبتمبر 22, 2018خطبة عن حديث (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ)
سبتمبر 29, 2018الخطبة الأولى ( إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى مسلم في صحيحه (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَيَضَعَ يَدَهُ وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهَا ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لاَ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَجَاءَ بِهَذَا الأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِى مَعَ يَدِهَا »
إخوة الإسلام
في هذا الحديث النبوي الشريف ، يحكي الصحابي الجليل حذيفة رضي الله عنه موقفًا حدث معه عند النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث كانوا يجلسون لتناول الطعام ، ولم يبدؤوا بعد ، وكانوا ينتظرون أن يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم أولا، ثم جاءت فتاة صغيرة تجري مندفعة نحو الطعام ، ومدت يدها إليه، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأبعد يدها، ثم جاء بعدها أعرابي من البادية ، وأراد هو الآخر أيضا أن يمد يده نحو الطعام؛ فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده وأبعدها، ثم اوضح الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم ، وبين لهم أن الشيطان يأكل من الطعام الذي لم يُذكر اسم الله عليه ،وأن هذه الجارية الصغيرة ،وهذا الأعرابي ،أتيا ومدا أيديهما نحو الطعام ،دون أن يسميا ، أو يذكرا اسم الله تعالى ، ولذلك منعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ بأيديهما ، حتى لا يصل الشيطان إلى الطعام. وقوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ” فمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَتَمَكَّن مِنْ أَكْل الطَّعَام إِذَا شَرَعَ فِيهِ إِنْسَان بِغَيْرِ ذِكْر اسم اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْرَع فِيهِ أَحَد فَلَا يَتَمَكَّن ، فالشيطان لا يستطيع أن يأكل منه ابتداء، وإنما يأكل بالواسطة، بواسطة من حضر ولم يسمِّ الله تعالى ، ولو أن بعضم سمى، ولو سمى الجميع إلا واحدًا ،فهذا الواحد يستحل به الشيطان الطعام، يقول صلى الله عليه وسلم : (وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَجَاءَ بِهَذَا الأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ)، وذلك لم يقع لأحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من أهل العلم والعرفان، وإنما وقع من جارية هي مظنة الجهل، وأعرابي هو أيضاً كذلك ،والأعرابي هو من سكن البادية. وقال القاضي عياض: “ويحتمل أن يكون استحلاله له استحسانه له ،لرفع البركة منه إذا لم يسمّ عليه الله”. وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم : “وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ”: فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الأعرابي وهذه الجارية: جاء بهما الشيطان، لأجل أن يستحل الطعام بهما ، إذا أكلا بدون تسمية، وهما قد يكونان معذورين لجهلهما: هذه لصغرها، وهذا أعرابي، ولكن الشيطان أتى بهما من أجل أنهما إذا أكلا بدون تسمية، شارك هو في الطعام ، وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ يَده فِي يَدِي مَعَ يَدهَا”: قال النووي: “هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول (يَدهَا) وَفِي بَعْضهَا (يَدهمَا) فَهَذَا ظَاهِر ، وَالتَّثْنِيَة تَعُود إِلَى الْجَارِيَة وَالْأَعْرَابِيّ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ يَدِي فِي يَد الشَّيْطَان مَعَ يَد الْجَارِيَة وَالْأَعْرَابِيّ . وَأَمَّا عَلَى رِوَايَة (يَدهَا) بِالْإِفْرَادِ فَيَعُود الضَّمِير عَلَى الْجَارِيَة ،والمعنى: أن يد الشيطان كانت مع يد الجارية والأعرابي فلما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم يديهما أمسك يد الشيطان أيضًا. والذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن هذا الحديث وشبهه من الأحاديث الواردة في أكل الشيطان محمولة على ظواهرها ، وأن الشيطان يأكل حقيقة ؛ إذ العقل لا يحيله ، والشرع لم ينكره ، بل أثبته فوجب قبوله واعتقاده
أيها المسلمون
ويُستفاد ويستنبط من هذا الحديث النبوي الشريف، أمور عدة ، وآداب جمة ، ومنها :– أن من الأدب أن “يَبْدَأ الْكَبِير وَالْفَاضِل فِي غَسْل الْيَد لِلطَّعَامِ وَفِي الْأَكْل” ، وهذا هو فعل الصحابة رضي الله عنهم ،أنهم كانوا لا يأكلون حتى يأكل النبي صلى الله عليه وسلم أولًا، وهو داخل في عموم قوله – تبارك وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) الحجرات:1 ، فلا يكون التقدم بين يديه – صلى الله عليه وسلم – في شيء من الأشياء ،لا في رأي واقتراح ونظر، وحكم، أو طعام، أو غير ذلك، ومن المعلوم أن التقدم بين يدي الكبير غير مناسب ، وينافى الأدب قال القاضي عياض في شرحه: “استحبوا أن يكون هو صلى الله عليه وسلم البادئ للحاضرين بالغسل والأكل لتنشيطهم بذلك، وبعكسه في رفع اليد وغسلها عند انتهاء الطعام؛ لئلا يظهر منه بالبداية حرصه على رفع أيديهم”. – ومما يرشد إليه الحديث : أن من آداب الطعام والشراب : التسمية وذكر الله تعالى قبل البدء بتناول الطعام؛ قال النووي: “اِسْتِحْبَاب التَّسْمِيَة فِي اِبْتِدَاء الطَّعَام، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ، وَكَذَا تُسْتَحَبّ حَمْد اللَّه تَعَالَى فِي آخِره، وَكَذَا تُسْتَحَبّ التَّسْمِيه فِي أَوَّل الشَّرَاب ، بَلْ فِي أَوَّل كُلّ أَمْر ذِي بَال.. وَلَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَة فِي أَوَّل الطَّعَام عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ عَاجِزًا لِعَارِضٍ آخَر ثُمَّ تَمَكَّنَ فِي أَثْنَاء أَكْله مِنْهَا يُسْتَحَبّ أَنْ يُسَمِّي وَيَقُول: بِسْمِ اللَّه أَوَّله وَآخِره”. لقوله صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود وغيره : (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ نَسِىَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ ». وفي سنن أبي داود وغيره :(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا وَرَجُلٌ يَأْكُلُ فَلَمْ يُسَمِّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ طَعَامِهِ إِلاَّ لُقْمَةٌ فَلَمَّا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ « مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَقَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ ». ومن المعلوم أن التسمية في شرب الماء واللبن والعسل والمرق والدواء وسائر المشروبات كالتسمية على الطعام في كل ما ذكرناه ، وتحصل التسمية بقوله : ( بسم الله ) ، فإن قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، كان حسنا ، وسواء في استحباب التسمية الجنب والحائض وغيرهما ، كما يستحب أن يجهر بالتسمية ليسمع غيره وينبهه ، وكذا يستحب حمد الله تعالى في آخر الطعام أو الشراب
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومما يستنبط من هذا الحديث : أن تسمية الواحد تكفي عن الجماعة: “وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمِّي كُلّ وَاحِد مِنْ الْآكِلِينَ ، فَإِنْ سَمَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَصَلَ أَصْل السُّنَّة، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ رحمه الله، وَيُسْتَدَلّ لَهُ بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَان إِنَّمَا يَتَمَكَّن مِنْ الطَّعَام إِذَا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُود يَحْصُل بِوَاحِدٍ” – ومما يرشد إليه الحديث : جَوَاز الْحَلِف مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ”. – ومما يستنبط من هذا الحديث : إثبات أن الشيطان يأكل وأن له يد؛ كما قال النووي: “هَذَا الْحَدِيث وَشَبَهه مِنْ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي أَكْل الشَّيْطَان مَحْمُولَة عَلَى ظَوَاهِرهَا، وَأَنَّ الشَّيْطَان يَأْكُل حَقِيقَة إِذْ الْعَقْل لَا يُحِيلهُ، وَالشَّرْع لَمْ يُنْكِرهُ، بَلْ أَثْبَته فَوَجَبَ قَبُوله وَاعْتِقَاده ، ومنها: أن الشيطان يأمر الإنسان ويحثه ويزجره على فعل ما لا ينبغي وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى : ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ﴾ البقرة 268، وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ النور 21، فدل هذا على أن الشيطان له إمرة على بني آدم ، والمعصوم من عصمه الله تعالى . ومنها أيضا: أن هذا الحديث فيه آية ومعجزة من معجزات الرسول ﷺ حيث أعلمه الله تعالى بما حصل في هذه القصة ،وأن الشيطان دفع بالأعرابي والجارية ، وأنه صلى الله عليه وسلم أمسك بأيديهم أي بأيدي الثلاثة بيده الكريمة صلوات الله وسلامه عليه ، ومنها: إذا جاء أحد يريد أن يأكل ولم تسمعه سمى الله، فأمسك بيده حتى يسمي الله ، لأن النبي ﷺ أمسك بأيديهم ،ولم يقل سميا ،بل أمسك بأيديهم ،حتى يكون في ذلك ذكرى لهم، فيذكرون هذه القصة ،ولا ينسون التسمية في المستقبل
الدعاء