خطبة عن (الرحمة) من أخلاق المسلم
يناير 26, 2019خطبة عن قوله تعالى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)
يناير 26, 2019الخطبة الأولى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِىَّ الْغَنِىَّ الْخَفِيَّ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى مسلم في صحيحه: (حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِىَّ الْغَنِىَّ الْخَفِيَّ » . إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع قوله صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِىَّ الْغَنِىَّ الْخَفِيَّ »، ففي هذا الحديث يرغب الرسول صلى الله عليه وسلم أمته في مكارم الأخلاق ، وجميل الصفات ، ويرشدهم إلى ما يحبه الله من عباده ، فيقول صلى الله عليه وسلم ، « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِىَّ ) ، والتقي : هو العبد المؤمن الذي قد جعل بينه وبين عذاب الله وقاية ،بفعل ما أمر ،وترك ما نهى، فهو يفعل المأمورات ، ويترك المحظورات، والتقي : هو الذي يؤمن بالغيب، ويقيم الصلاة، وينفق مما رزقه الله، ويتقي محارم الله، ويطيع ويتَّبع شريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم صلى الله عليه وسلم . وعن التقوى : قال الامام علي رضي الله عنه 🙁 التقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والإستعداد ليوم الرحيل ). وقال عنها الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : قال ( التقوى ) : أن يطاع الله فلا يعصي ،ويذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر. وقال طلق بن حبيب رحمه الله : التقوى أن تعمل بطاعة الله ،على نور من الله ،ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ،على نور من الله ، تخاف عقاب الله. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة ،وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما ،يكون حجابا بينه وبين الحرام ، فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه ،فقال الله تعالى :(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) الزلزلة ( 7، 8)، فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله ، ولا شيئا من الشر أن تتقيه . وقال ابن عباس رضي الله عنه : المتقون : الذين يحذرون من الله عقوبته ،في ترك ما يعرفون من الهدي ،ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به . وقال الحسن رحمه الله: المتقون : اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا ما اقترض الله عليهم . وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : ليس تقوى الله بصيام النهار ،ولا بقيام الليل ،والتخليط فيما بين ذلك ،ولكن تقوى الله : ترك ما حرم الله ،وأداء ما افترض الله ،فمن رزق بعد ذلك خيرا ، فهو خير إلى خير. وقال موسى بن أعين رحمه الله : المتقون : تنزهوا عن أشياء من الحلال ،مخافة أن يقعوا في الحرام ، فسماهم الله متقين . وقد يغلب استعمال التقوى على اجتناب المحرمات ، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه ، وسئل عن التقوى فقال : هل أخذت طريقا ذا شوك ؟قال : نعم ، قال : فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيت الشوك عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه ، قال : ذاك التقوى . فالمرء محتاج للتقوى ولو كان أعلم العلماء، وأتقى الأتقياء، فهو يحتاج إلى التقوى لأن الإنسان تمر به حالات، ويضعف في حالات، يحتاج إلى التقوى للثبات عليها ، يحتاج إلى التقوى للازدياد منها. والتقوى هي أجمل لباس يتزين به العبد، قال الله تعالى : (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) الأعراف 62، وتقوى الله – سبحانه و تعالى – إذا استقرت في القلوب ،وارتسمت بها الأقوال والأعمال والأحوال ،أثمرت وأعقبت من الفضائل والفوائد والثمار شيئاً كثيراً ،به تصلح الدنيا والآخرة
أيها المسلمون
ثم نأتي إلى قوله صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِىَّ الْغَنِىَّ الْخَفِيَّ ». فبعد أن تعرفنا على معنى التقوى وأحوال المتقين ، نأتي إلى معنى : (الْغَنِىَّ ) : فالغني : هو غني النفس ، فهو الغنى المحبوب من الله، ففي الصحيحين : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ »، والغني : هو الذي يستغني عن الناس ، ويقنع بما رزقه الله، فهو غني بالله عزّ وجلّ عمن سواه، ولا يسأل الناس شيئاً، ولا يتعرض للناس بتذلل؛ بل هو غني عن الناس، عارف بنفسه، مستغن بربه، لا يلتفت إلى غيره. وقال ابن بطال : ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسَّع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي؛ فهو يجتهد في الازدياد، ولا يبالي من أين يأتيه؛ فكأنه فقير لشدة حرصه؛ وإنما حقيقة الغنى غنى النفس؛ وهو من استغنى بما أوتي، وقنع به ورضي، ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب ؛ فكأنه غني . وغنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره؛ علمًا بأن الذي عند الله خير وأبقى، قال ابن حجر : «وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب؛ بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره؛ فيتحقق أنه المعطي المانع؛ فيرضى بقضائه، ويشكره على نعمائه، ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غير ربه تعالى» . وقال القرطبي: المرء إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع فعزت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال ،لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم ، فيكون أحقر من كل حقير ،وأذل من كل ذليل. فكم من الناس عنده من أصناف المال الكثير لكنه يعيش فقرا حقيقيا ، فتراه دائما خائفا مهموما ، يسعى في زيادة ماله خوفا من الفقر ، يبخل بالنفقة في أوجه الخير حتى لا يقل ماله، بل ربما قطع رحمه لنفس الأسباب ، كما تراه متطلعا إلى ما عند الآخرين ، فمثل هذا يعيش فقرا دائما ملازما له ؛ لأنه لم يرض بما قسمه الله تعالى له ، ولأن الدنيا في قلبه قد استقرت. وفي مسند أحمد ، يقول صلى الله عليه وسلم : (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ )
أيها المسلمون
ثم نأتي إلى هذا العبد الذي يحبه الله ويقربه ، إنه العبد : (الْخَفِيَّ ) ،ومعنى الخفي : أي المنقطع إلى عبادة الله ، والاشتغال بأمور نفسه، وضبطه بعض رواة مسلم بالحاء المهملة ( الحفي ) ذكره القاضي عياض، والمراد به الوصول للرحم ، واللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء، والخفي: هو الذي يبتعد عن مواضع الظهور والشهرة ، روى البخاري في صحيحه من حديث سهل رضي الله عنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلـم فقال: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ، وقد جاء في حديث معاذ -رضي الله عنه- عند ابن ماجه : (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: … إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِىَّ الْغَنِىَّ الْخَفِيَّ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فالله يحب العبد الخفي الذي إن غاب لم يفقد، وإن حضر لم يعرف؛ وهو لا يتظاهر بالخير وإظهار العمل والعلم، ولا يطلب الجاه في قلوب الخلق؛ ويقنع باطلاع الخالق على طاعته دون اطلاع الخلق، ويقنع بحمد الله وحده دون حمد الناس . فهو خفي في شأنه، وفي حاله قد شغل بذنوبه وبطاعة الله – تبارك وتعالى-، ولا يشعر به الناس، وليس معنى ذلك أن من لم يكن بهذه الصفة أنه مذموم؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو أعرف الخلق -عليه الصلاة والسلام-، وهكذا كبار الصحابة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم وهكذا أيضاً القادة، والعلماء، وأئمة العدل في هذه الأمة سلفاً وخلفاً، لابد أن يُعرف، ومن قام ونهض بشيء من مصالح هذه الأمة العامة فلابد أن يعرفه الناس، ولكن المقصود أن الإنسان لا يطلب الرفعة والعلو في الأرض، أو يريد أن يعرفه الناس، فإن ذلك مذموم، فالأخفياء : صحبوا الخفاء حتى ألفوه ، فتلذذوا به ، وعاشوا معه ، فكانوا أخفياء في أنفسهم أولا : يقول الشيخ محمد بن عثيمين في (شرح رياض الصالحين ) – رحمه الله – : (الخفي هو الذي لا يظهر نفسه, ولا يهتم أن يظهر عند الناس, أو يشار إليه بالبنان, أو يتحدث الناس عنه ) ،وهم أخفياء في أعمالهم ثانيا : ففي الحديث كما في الصحيحين : « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ) :(وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ )، يقول عبد الله بن داود : (كان يستحبون – أي السلف الصالح- أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها). ويقول محمد بن واسع : (لقد أدركت رجالا يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه) ، فالسر في حياة أولئك هو التوحيد القلبي، يوم أن تكون الأفعال والأقوال وحركات القلب وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى ، فعرف هذا السر أولئك الأخفياء، فكانت الدنيا لهم، والآخرة دارهم)، فالاخفياء : ما اجتهدوا في إخفاء أعمالهم إلا لخوفهم من ربهم، وخوفهم من فساد أعمالهم بالعجب والغرور وهجمات الرياء ، فللعمل الخفي لذة ونشوة و تحليق لا يدركه إلا من جربه ،وقد وردت آثار عن السلف بالتحذير من طلب الشهرة، لأنه يخشى على صاحبها من الرياء، والعجب، والغرور، وأن المحمود خمول الذكر إلا من شهره الله لنشر دينه من غير حرص منه. قال القاضي عياض: من أحب أن يُذكر لم يذكر، ومن يكره أن يُذكر ذُكِر. وقال علي بن أبي طالب: تبذل ولا تشتهر، ولا ترفع شخصك لتذكر، وتعلم واكتم، واصمت تسلم، تسر الأبرار، وتغيظ الفجار . وقال أيوب السختياني: والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يُشعر بمكانه .
أيها المسلمون
فإذا أراد العبد أن يحبه الله تعالى ، ويقربه إليه ، فعليه أن يكون عبدا تقيا ، غنيا ، خفيا ، فهذه من صفات المقربين ، وأخلاق الصالحين ، وعلامات المفلحين الفائزين .
الدعاء