خطبة عن (نحن في زمن وأَيَّام الصَّبْرِ)
ديسمبر 7, 2025الخطبة الأولى (اتَّقِ الله حيثُما كنتَ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الامام الترمذي في سننه: (عن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي الله عنهما: قال رسول الله ﷺ: «اتَّقِ الله حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ النَّاسَ بخُلقٍ حسن».
إخوة الإسلام
هذا حديثٌ نبوي عظيمٌ، من جوامع كَلِمِ النبي ﷺ، وقد اجتمع فيه صلاحُ الدين والدنيا والآخرة، لأنه وضع للعبد منهجًا شاملاً في علاقته بربِّه، وبنفسه، وبالناس من حوله،
فأول ما أوصى به النبي ﷺ هو قوله: «اتَّقِ الله حيثُما كنتَ»، والتقوى: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقايةً، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، فليست التقوى كلمةً تُقال باللسان، ولا مظاهر تُرى بالعيان، بل هي حالٌ يعيشها المؤمن، في السر والعلن، في البيت والسوق، في السفر والحضر، وهو يعلم يقينا أن الله مطَّلعٌ عليه، قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:٤].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «حيثما كنتَ» تذكيرٌ بأن المؤمن مطالبٌ بالتقوى في كل مكانٍ وزمان، لا في المسجد فقط، بل في بيته مع أهله، وفي عمله، ومع الناس: في تجارته وماله، وفي لسانه وبصره، وفي خلوته وجلوته، فالله تعالى لا تخفى عليه خافية، قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (18) الحاقة، وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (7) المجادلة
وأما قوله ﷺ في الحديث المتقدم: «وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها»، فهذه من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين، فكل ابن آدم خطّاء، ولا يسلم من الذنوب أحد، ولكن الموفَّق من إذا أذنب استغفر، وإذا أساء تاب، وإذا أخطأ أصلح، فيتبع السيئة بحسنة تمحوها، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤]. وفي صحيح مسلم: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ – قَالَ – فَنَزَلَتْ (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) هود: (114)، قَالَ فَقَالَ الرَّجُلُ أَلِىَ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي»، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه – قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. قَالَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ. قَالَ وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – الصَّلاَةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ. قَالَ «أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ». أَوْ قَالَ «حَدَّكَ».
فلا تيأس – أيها المسلم – إن وقعت في ذنب، بل بادر إلى حسنةٍ بعده، من صلاةٍ، أو صدقةٍ ،أو ذكرٍ، أو عملٍ صالح، وإن أعظم الحسَنات بعد السيئة التوبةُ النصوح، والرجوع إلى الله، فقد قال ﷺ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ» (رواه ابن ماجه).
ثم ختم الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث المتقدم بقوله: «وخَالِقِ النَّاسَ بخُلقٍ حسن»، وكأن النبي ﷺ أراد أن يربط بين علاقتك بربك، وعلاقتك بنفسك، وعلاقتك بالناس، فالتقوى: أن تحفظ علاقتك بالله، والحسنة بعد السيئة تحفظ نفسك من الإصرار واليأس، وحسن الخلق يصلح علاقتك بالناس، فالأخلاق الحسنة ليست ترفًا ولا نافلة، بل هي من صلب الدين، ففي سنن الترمذي: (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ قَالَ « الْمُتَكَبِّرُونَ»، وفي سنن أبي داود: (عَنْ عَائِشَةَ رَحِمَهَا اللَّهُ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ».
وحسن الخلق هو أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة، ففي سنن أبي داود: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ». ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، فتأملوا كيف اجتمعت هذه الوصايا الثلاث في حديثٍ واحد: تقوى الله، إصلاح النفس، حسن معاملة الناس، فمن جمعها فقد أخذ بحظٍ وافرٍ من الخير.
أيها المسلمون
وهذا الحديث يصلح أن يكون دستورًا لحياة المسلم: فإن كنت في خلوة فليكن معك رقيب التقوى، وإن أذنبت فلتسرع إلى التوبة والعمل الصالح، وإن خالطت الناس فلتكن سمحًا كريمًا حليمًا، تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك،
والأمة اليوم بحاجة إلى هذه الوصايا أكثر من أي وقت مضى، فإذا عمَّت التقوى بيوتَنا وأعمالنا وأسواقنا، وصار كل واحدٍ منَّا إذا أساء أصلح، وإذا أخطأ اعتذر، وإذا عامل الناس عاملهم بالخلق الحسن، لانتشر الخير وساد الأمن، وزالت أسباب البغضاء والفتن.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اتَّقِ الله حيثُما كنتَ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وفي قوله ﷺ: «اتَّقِ الله حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ النَّاسَ بخُلقٍ حسن». فهذه كلماتٌ يسيرة، ولكنها تحتاج إلى مجاهدةٍ دائمة، فالتقوى تحتاج إلى يقظة قلب، والسيئة تحتاج إلى إصلاح سريع قبل أن تتراكم، وحسن الخلق يحتاج إلى صبرٍ طويل مع الناس،
وقد كان النبي ﷺ أعظم الناس تقوى، وأسرعهم إلى التوبة، وأكملهم خُلقًا، ففي صحيح البخاري: (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضي الله عنه – يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ،وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»،
وفي مسند أحمد: (عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَتْ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم:4، وكان من دعائه ﷺ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وزَكِّهَا أنتَ خَيْرُ مَن زَكَّاهَا، أنْتَ وَلِيُّهَا ومَوْلَاهَا» (رواه مسلم).
أيها المسلمون
نحن الآن في زمن كثرت فيه الفتن، والشهوات والشبهات، والمسلم محتاجٌ أكثر من أي وقتٍ مضى إلى هذه الوصايا الثلاث: أن يتقي الله في خلواته، وأن يسارع بالتوبة من زلاته، وأن يحسن معاملة الناس من حوله،
فلنأخذ هذا الحديث منهجًا عمليًّا لنا في بيوتنا وأعمالنا، مع أزواجنا وأولادنا، مع جيراننا وزملائنا، وليكن شعارنا في حياتنا: تقوى الله، والتوبة الدائمة، وحسن الخلق.
الدعاء
