خطبة عن (أبشروا فأنتم من أمة أحمد)
نوفمبر 10, 2018خطبة عن (آداب الْعُطَاس والتَّثَاؤُب) (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ)
نوفمبر 17, 2018الخطبة الأولى ( انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى مسلم في صحيحه 🙁 عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ » . قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ « عَلَيْكُمْ ».
إخوة الإسلام
إن هذا الحديث النبوي الشريف ، لهو جامع لمعاني الخير ، ودافع إلى شكر المنعم ، لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين، من عبادة ربه مجتهدا فيها ،إلا وجد من هو فوقه ، فمتى طلبت نفسه اللحاق به ، استقصر حاله ، فيكون أبدا في زيادة ، تقربه من ربه . ولا يكون الانسان على حال خسيسة من الدنيا ، إلا وجد من أهلها من هو أخس حالا منه ، فإذا تفكر في ذلك ،علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك ، من غير أمر أوجبه ، فيلزم نفسه الشكر ، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده . وفي هذا الحديث أيضا دواء الداء ، لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه ، لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسدا ، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ، ليكون ذلك داعيا إلى الشكر ، وأما من نظر في دنياه ،إلى من هو فوقه ، فأسف على ما فاته ،فإنه لا يكتب شاكرا ، ولا صابرا . والمؤمن إذا سلم دينه من الخلل والزوال ، فلا يبالي بنقصان الجاه ،والمال ،وسائر المشقات الكائنة في الحال والاستقبال . قال ابن جرير وغيره : هذا حديث جامع لأنواع من الخير ؛ لأن الإنسان إذا رأى من فضل عليه في الدنيا طلبت نفسه مثل ذلك ، واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى ، وحرص على الازدياد ليلحق بذلك أو يقاربه ، وهذا هو الموجود في غالب الناس . وأما إذا نظر في أمور الدنيا ،إلى من هو دونه فيها ،ظهرت له نعمة الله تعالى عليه ، فشكرها ، وتواضع ، وفعل فيه الخير . وقال بعض السلف: صاحبت الأغنياء فكنت لا أزال في حزن ،أرى داراً واسعة ودابة فارهة ، ولا عندي شيء من ذلك، فصحبت الفقراء فاسترحت، وفي معناه ما أخرجه الحاكم بسند صحيح (قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أقلوا الدخول على الأغنياء فإنه قمن أن لا تزدروا نعم الله عز وجل) وأما إذا نظر في الدنيا إلى من هو دونه ، ظهر له نعمة الله عليه فشكرها ،وتواضع ،وفعل ما فيه الخير ،وكذا إذا نظر إلى من هو فوقه في الدين ،ظهر له تقصيره فيما أتى به ،فحمله ذلك على الخضوع لمولاه، وألا ينظر لعمله ،ولا يعجب به ،ويزداد في الجهد في العمل ، والدأب فيه .
أيها المسلون
يا لها من وصية نافعة، وكلمة شافية وافية ، فهذا الحديث يحث على شكر الله ،بالاعتراف بنعمه، والتحدث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعم، وفعل جميع الأسباب المعينة على الشكر ؛ فإن الشكر لله هو رأس العبادة، وأصل الخير، وأوْجَبُه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصة أو عامة إلا من الله ، وهو الذي يأتي بالخير والحسنات، ويدفع السوء والسيئات ، فيستحق أن يبذل له العباد من الشكر ،ما تصل إليه قواهم، وعلى العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله ، وتعينه على الشكر. وقد أرشدنا الرسول -صلّى الله عليه وسلم- في هذا الحيث إلى هذا الدواء العجيب، وإلى هذا السبب القوي لشكر نعم الله ، وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه : في العقل ،والنسب ، والمال ،وكافة أصناف النعم ، فمتى استدام هذا النظر ،اضطره إلى كثرة شكر ربه ، والثناء عليه ، فإنه لا يزال يرى خلقاً كثيراً دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ،ومال ،ورزق، وخَلْق ، وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمداً كثيراً، ويقول: الحمد لله الذي أنعم عليَّ وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً. ففي سنن الترمذي بسند حسن :(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاَكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلاَءُ » . فهو عندما ينظر إلى خلق كثير ممن سلبوا عقولهم، فيحمد ربه على كمال العقل، ويشاهد الكثيرين ممن ليس لهم قوت مدخر، ولا مساكن يأوون إليها، وهو مطمئن في مسكنه، موسع عليه رزقه. ويرى خلقاً كثيراً قد ابتُلُوا بأنواع الأمراض، وأصناف الأسقام ،وهو مُعافى من ذلك، مُسَرْبل بالعافية ، ويشاهد خلقاً كثيراً قد ابتُلوا ببلاء أفظع من ذلك، بانحراف الدين، والوقوع في قاذورات المعاصي ،وقد حفظه الله منها .ويتأمل أناساً كثيرين قد استولى عليهم الهم، وملكهم الحزن والوساوس، وضيق الصدر، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء، ومنة الله عليه براحة القلب، حتى ربما كان فقيراً يفوق بهذه النعمة – نعمة القناعة وراحة القلب – كثيراً من الأغنياء. فمن وفق للاهتداء بهذا الهدي الذي أرشد إليه النبي -صلّى الله عليه وسلم- لم يزل شكره في قوة ونماء، ولم تزل نعم الله عليه تترى وتتوالى ، وأما من عكس القضية : فارتفع نظره ،وصار ينظر إلى من هو فوقه في العافية ،والمال والرزق ،وتوابع ذلك، فإنه لا بد أن يزدري نعمة الله، ويفقد شكره ، ومتى فقد العبد الشكر ،ترحلت عنه النعم ،وتسابقت إليه النقم، وامتحن بالغم الملازم، والحزم الدائم، والتسخط لما هو فيه من الخير، وعدم الرضا بالله رباً ومدبراً ، وذلك ضرر في الدين والدنيا ، وفيه الخسران المبين.
واعلم أن من تفكر في كثرة نعم الله، وتفطن لآلاء الله الظاهرة والباطنة، وأنه لا وسيلة إليها إلا محض فضل الله وإحسانه، وأن جنساً من نعم الله لا يقدر العبد على إحصائه وتعداده، فضلاً عن جميع الأجناس، فضلاً عن شكرها فإنه يضطر إلى الاعتراف التام بالنعم، وكثرة الثناء على الله، ويستحي من ربه أن يستعين بشيء من نعمه على ما لا يحبه ويرضاه، وأوجب له الحياء من ربه ،الذي هو من أفضل شعب الإيمان ،فاستحيى من ربه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره. ولما كان على الشكر مدار الخير وعنوانه فقد أوصى به صلى الله عليه وسلم ، ففي سنن أبي داود (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ « يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ ». فَقَالَ « أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ » وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : (رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا ) رواه الترمذي ،وقد اعترف صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الشاكرين بالعجز عن شكر نعم الله عليه ، فقال صلّى الله عليه وسلم: (لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ » رواه مسلم.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وإن المتأمل والمتفكر والمتدبر لهذا الحديث النبوي الشريف ، يجد أنه يحتوي على الكثير من الفوائد ، وأذكر لكم منها : أولًا: دل هذا الحديث على بيان المنهج الصحيح ،الذي ينبغي أن يسير عليه المسلم في حياته، وهو أن ينظر إلى من هو دونه ،ومن هو أقل منه ،في أمور الدنيا ،ممن فُضل هو عليه، سواءً أكان ذلك في المال أو في المسكن أو في المركب أو في الصحة أو غير ذلك من أمور الدنيا، وأن هذا هو المنهج الصحيح للمسلم، ويستفيد باتباع هذا المنهج فائدتين: الفائدة الأولى: ألا يحتقر نعم الله -تعالى- عليه بل يستعظمها ويستكثرها، ويدعوه ذلك إلى شكرها. الفائدة الثانية: أنه إذا نظر إلى من هو أقل منه يرتاح بذلك قلبه، وتطمئن نفسه، ويرضى بما قسم الله له، وهذا الرضا هو من أسباب نيل السعادة، وكما قال بعضهم: “ليست السعادة أن تملك أكثر مما يملك الناس، ولكن السعادة أن ترضى أكثر مما يرضى الناس”، ثانيًا: هذا الحديث ورد في أمور الدنيا، فيشرع للإنسان أن ينظر إلى من هو أقل منه، وأما أمور الدين وأمور الآخرة: فينبغي أن ينظر إلى من هو أفضل منه ،وليس إلى من هو أقل منه؛ لأن هذا النظر يدفعه، من هو أفضل منه، والتأسي به، والمسارعة والمنافسة في أمور الخير، ثالثًا: في هذا الحديث النهي عن أن ينظر الإنسان إلى من هو فوقه في أمور الدنيا؛ لأن هذا النظر يؤدي إلى أن يحتقر نعم الله عليه، وأن يعيش في قلق وكدر، ولن يأتيه من الرزق إلا ما كتب الله له.
الدعاء