خطبة عن (من السنن الربانية: (سنة التداول) (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)
يناير 4, 2021خطبة عن : الاستعانة بالصبر والصلاة ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ )
يناير 9, 2021الخطبة الأولى ( ثَلاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، يَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَبْشِرُ بِهِمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الحاكم في “المستدرك” ، والبيهقي في “الأسماء والصفات” وحسنه الألباني في “الصحيحة” وفي صحيح الترغيب والترهيب : عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : ” ثَلاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، يَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَبْشِرُ بِهِمْ ، الَّذِي إِذَا انْكَشَفَتْ فِئَةٌ قَاتَلَ وَرَاءَهَا بِنَفْسِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ ، وَإِمَّا أَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَكْفِيهِ ، فَيَقُولُ : انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي كَيْفَ صَبَّرَ لِي نَفْسَهُ ، وَالَّذِي لَهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ وَفِرَاشٌ لَيِّنٌ حَسَنٌ ، فَيَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَذَرُ شَهْوَتَهُ , فَيَذْكُرُنِي وَيُنَاجِينِي وَلَوْ شَاءَ لَرَقَدَ ، وَالَّذِي يَكُونُ فِي سَفَرٍ وَكَانَ مَعَهُ رَكْبٌ , فَسَهَرُوا وَنَصَبُوا ثُمَّ هَجَعُوا , فَقَامَ فِي السَّحَرِ فِي سَرَّاءٍ أَوْ ضَرَّاءٍ ” .
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم –إن شاء الله تعالى – مع هذا الهدي النبوي الكريم ، والذي يبشرنا فيه صلى الله عليه وسلم بجزاء أهل الطاعات من : جهاد في سبيل الله ، وقيام الليل ، والأنس بذكر الله ولو في حال النصب والتعب ، فهؤلاء الثلاثة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يحبهم ، (يَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَبْشِرُ بِهِمْ ) ، وفي هذا إثبات صفة الضحك لله -جل وعلا-، على ما يليق بجلاله وعظمته .أما الأول : كما في هذا الحديث : فهو رجل قاتل في سبيل الله ، فإذا انكشفت فئة من أصحابه، أو جماعة ،وانهزمت ،ثبت هو ،وقاتل من ورائها ،صابرا محتسبا ، يحمي حوزة المسلمين ، فلم يفر ،ولم يجبن ،ولم يضعف ؛ لأنه موقن بنصر الله ،أو الموت في سبيله ، كما قال تعالى : ( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) التوبة 52 ، يعني : إما النصر ، وإما الشهادة . ولذلك قال في الحديث: (فَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ ، وَإِمَّا أَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَكْفِيهِ )يعني : يكفيه عدوه ، ويحفظه ويكلؤه ، قال الله تعالى : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) الزمر 36، فيقول الله عز وجل : (انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي كَيْفَ صَبَّرَ لِي نَفْسَهُ ؟ ) أي كيف حبسها لله ، وهيأها للقتل في سبيله . أما الثاني : فهو رجل له زوجة حسنة ، وفراش ناعم مريح ، فترك ذلك لله ، وقام للتهجد بالليل ، فيقول الله تعالى كما في الحديث : (فَيَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَذَرُ شَهْوَتَهُ , فَيَذْكُرُنِي وَيُنَاجِينِي وَلَوْ شَاءَ لَرَقَدَ ) ، يعني : يدع شهوته ،وحاجة نفسه إلى النوم ،أو إلى امرأته ، من أجل مناجاتي وذكري ، ولو شاء نام ، ولم يقم ، ولا حرج عليه ، ولا اثم ، فهو قد رغب في قيام الليل لما فيه من قرب من الله ، وأنس بذكره ، والوقوف بين يديه ، فقيام الليل بالصلاة، من الأمور التي تقرب العبد من ربه وتوجب له محبته ، فالصلاة في الليل أقرب إلى الخشوع، وذلك لسكون الأصوات وعدم الصوارف التي تُشَتِّت ذهن الإنسان وتُشَوِّش فكره، وهنا يكون الاتصال بالله أتم، والمُناجاة معه أمتع وأحسن، كما أن الليل يقل فيه أو ينعدم الرقيب الذي قد يرائي الإنسان بعمله من أجله، وهنا تكون العبادة أخلص لله وأبعد عن تُهْمَة الشرك والنفاق، ومما يجعل لقيام الليل أهميته أنَّ فيه إيثارًا لرضاء الله على رضاء النفس، فإن النفس تميل إلى الراحة وبخاصة في الليل، فإذا جاهدها الإنسان ونزعها عن هواها وقام يُصلي كان معنى حب الله واضحًا، وابتغاء مرضاته ظاهرًا.قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : ” من فضائل التهجد : أن الله تعالى يحب أهله ، ويباهي بهم الملائكة ويستجيب دعاءهم “وروى الإمام أحمد ، وصححه الألباني في “صحيح الجامع” : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَقُولُ الصِّيَامُ : أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ . وَيَقُولُ الْقُرْآنُ : مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ . قَالَ : فَيُشَفَّعَانِ ) . أما الثالث : فهو رجل سافر مع رفقة ، فسهروا بالليل ونصبوا – أي تعبوا – ثم هجعوا – أي ناموا ، ولا شيء هو أحب وأشهى للمسافر من النوم بعد التعب والسهر ،فقام هو من دونهم يصلي بالسحر ، أو يذكر الله ، أو يتلو القرآن ، وهو في جوف الليل الآخر ، وترك النوم لله تعالى ، وقام يناجيه بالسحر ويدعوه . فهؤلاء الثلاثة يحبهم الله تعالى ؛ لأن كلا منهم آثر أمر الله على شهوته ، وحظ نفسه ، وأعظمهم درجة الأول :الذي قاتل بعد انهزام أصحابه ؛ لأنه آثر أمر الله على حظ نفسه من الحياة ، ويليه الثاني ؛ لأنه آثر أمر الله على حظ نفسه من الزوجة ،ومن النوم ،ثم الثالث الذي آثر أمر الله على حظ واحد من حظوظ نفسه
أيها المسلمون
ومن الملاحظ في هذه الأصناف الثلاثة الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، أن أعمالهم من أعمال السر دون الجهر ، والنبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان ينصح أصحابه بخبيئة صالحة ، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبِيءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ”.صححه الألباني في “السلسلة الصحيحة” ومعنى “خبئ من عمل صالح” أي: من الأعمال الخفيّة ،التي لا يطّلع عليها أحد من الناس، خالية من الرياء، فتكون خالصة لله تبارك و تعالى ، فقد تكون الخبيئة الصالحة صدقة يدفعها صاحبها إلى مستحقيها ،بعيدًا عن أنظار المدّاحين، وعيون الناس أجمعين، متحليا بذلك بصفة واحد من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ» (صحيح البخاري ). وقد جاء في الأثر أن عليُّ بن الحسين رحمه الله كانت له خبيئة من العمل الصالح ،لم يعلم بها أحد إلا بعد وفاته، فقد كان يتصدق ويعيل مائة بيت من بيوت الأرامل والأيتام والفقراء سرًا بالليل، فلما توفي انقطعت المؤنة عن مائة بيت كان يأتيهم رزقهم بالليل من مجهول، فعلموا أنه هو الذي كان يحمله إليهم وينفق عليهم. وقد تكون الخبيئة الصالحة عبادة خفية : كصلاة في جوف الليل والناس نيام، أو صيام يوم شديد الحر بينما عامة الناس مفطرون، وقد أورد صاحب كتاب سير أعلام النبلاء خبر خبيئة داود بن أبي هند الذي صام أربعين سنة لا يعلم به أهله ولا حتى زوجته، وكان خزازًا يحمل معه غداءه فيتصدق به في الطريق ويرجع عشيا فيفطر، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق. وقد تكون الخبيئة الصالحة قضاء حوائج المسلمين من الضعفاء والعاجزين والمساكين، وهو ما اشتهر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من هذه الأمة، وأولهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد جاء في كتاب ابن عساكر (تاريخ دمشق) عن أبي صالح الغفاري أن عمر بن الخطاب كان يتعاهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يُسبق إليها، فرصده عمر فإذا هو أبو بكر الصديق الذي يأتيها وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: “أنت هو لعمري” (تاريخ دمشق لابن عساكر) وفي عصرنا الحاضر الكثير من النماذج والأمثلة المعاصرة عن أناس انكشفت لهم خبيئة صالحة في حياتهم ،أو بعد مماتهم ، رغم حرصهم الشديد على إخفائها عن العالمين، فكانت دليلًا دامغًا على أن الخير في هذه الأمة ،وفي أتباع هذا الدين الخاتم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( ثَلاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، يَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَبْشِرُ بِهِمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ولا يمكن تعداد واستقصاء جميع مزايا وخصائص الخبيئة الصالحة والعمل الخفي الخالص لوجه الله تعالى، وما لا يدرك كله لا يترك كله، ويكفي ذكر بعض تلك المزايا والخصائص لاستنهاض الهمم لتكون لكل مسلم خبيئة صالحة ، وأهمها: أولا : أن الخبيئة الصالحة هي في الحقيقة صك براءة من النفاق والرياء، فلا يمكن أن يخالط الرياء وحب الظهور العمل الخفي، كما لا يمكن أن يتسلل النفاق إلى العمل الخالص لوجه الله. ونظرًا للتعارض والتناقض التام بين الرياء والعمل الخفي والنفاق والإخلاص، فلا يمكن لمدمني الظهور والرياء والمنافقين أن تكون لهم خبيئة صالحة ،أو عمل صالح خفي، فهي صفة وخصلة الصالحين من عباد الله فحسب. ثانيا : أن الخبيئة الصالحة رصيد المؤمنين في أوقات اشتداد الأزمات ،ونزول الكروب، فهي تعينهم على الثبات ،وعدم الاضطراب في زمن الفتنة أولا، وتكون سببا في نجاتهم واستجابة دعائهم في الملمات ثانيا. ويكفي في هذا المقام ذكر حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم “خبيئة صالحة”، فدعوا بتلك الأعمال الخفية الصالحة فكانت سببًا لنجاتهم وخروجهم سالمين . ثالثا : أن الخبيئة الصالحة دليل على صدق الإيمان ،وقوة اليقين بموعود الله سبحانه، فأمثال هذه الأعمال الخفية لا يمكن ان تصدر إلا من رجل قوي إيمانه ،بما أعده الله تعالى للمخلصين من عباده، وأيقن بإطلاع الله تعالى على سره وعلانيته، وهو بتلك الخبيئة يصل إلى منزلة الإحسان في العبادة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما في الصحيحين : « الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ »
الدعاء