خطبة عن (فضل الله ورحمته)
نوفمبر 12, 2023خطبة عن (في الصدق نجاة)
نوفمبر 12, 2023الخطبة الأولى (فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (9) الزمر، وفي الصحيحين: (أن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
إخوة الإسلام
إن العلم نعمة من نعم الله تعالى التي أنعم بها علينا، فالعلم هو الخير والهداية، وفيه البركة والرفعة، وقد مدح الله عز وجل العلم في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله الأمين (صلى الله عليه وسلم) بل أمر الله تعالى نبيه (عليه الصلاة والسلام) بأن يطلب الاستزادة من العلم، فقال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (114) طه، وقد رفع الله تعالى شأن العلم وأهله، وبيَّن مكانتهم، ورفع منزلتهم، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11]، والعلم هو النور الذي يُخرِج الناس من ظلمات الجهل، إلى نور الهداية، وهو الوسيلة الناجحة للبناء والارتقاء، والنبي (صلى الله عليه وسلم) جعل الخير متوقفاً على العلم، ففي الصحيحين: (أن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)، بل جعل صاحبه بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ». والعلم هو الطريق الموصل إلى الجنة، ففي صحيح مسلم: (قال (صلى الله عليه وسلم): (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)، وفي رواية في سنن الترمذي: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»
فأهل العلم هم الأحياء، وسائر الناس أموات، فالناس إما عالم، أو متعلم، أو همج رعاع، وطلب العلم خير ما ضُيِّعت فيه الأعمار، وأُنْفِقت فيه الساعات والأموال، فبالعلم تبنى الأمجاد، وتشيد الحضارات، وتَسُود الشعوب، وتبنى الممالك، بل لا يستطيع المسلم أن يحقق العبودية الخالصة لله تعالى على وَفق شرعه، إلا بالعلم. ومن سلك طريقاً يظنه الطريق الموصل إلى الله تعالى بدون علم فقد سلك عسيراً، ورام مستحيلاً، فلا طريق إلى معرفة الله – سبحانه وتعالى -والوصول إلى رضوانه إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يُهتدى في ظلمات الجهل، وشبهات الفساد والشكوك. وما فشا الجهل في أمة من الأمم إلا قوض أركانها، وصدَّع بنيانها، وأوقعها في الرذائل والمتاهات المهلكة،
والعلماء بالله تعالى وبشرعه هم أهل الخشية، وهم شهداء الله في أرضه، وخلفاء الرسول في أمته، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف؛ فكلما كانت المعرفة للعظيم الكريم أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم، وأكثر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: “العالم بالرحمن من عباده: من لم يشرك به شيئاً، وأحل الحلال، وحرم الحرام، وحفظ وصية الله، وأيقن أنه ملاقيه، ومحاسبه بعمله”. وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 28] . وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لطلاب العلم، وأحوالهم في الاستفادة مما تعلموا؛ ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
أيها المسلمون
وفي هذا الحديث النبوي الكريم الذي بين أيدينا اليوم، يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا». فالله تعالى جعَلَ العِلمَ مَنارًا وهِدايةً إلى طَريقِه، وبدونِ العلمِ يَضِلُّ الناسُ الطَّريقَ، فالعِلمُ الحَقيقيُّ يَمنَعُ مِن الوُقوعِ في الزَّللِ. الله تعالى لا يَرفَعُ العِلمَ مِن النَّاسِ بإزالتِه مِن قُلوبِ العُلماء ومَحوِه مِن صُدورِهم، ولكنْ يَقبِضُ العلمَ بقَبْضِ العُلماءِ وموتِهم، فيَضيعُ العِلمُ، فلا يُوجَدُ فيمَن يَبْقى مَن يَخلُفُ مَن مَضَى، وكلَّما ذَهَبَ عالِمٌ ذهَبَ بما معه مِن العِلمِ، حتَّى إذا لم يُبْقِ اللهُ عالِمًا ومات أهلُ العلمِ الحقيقيِّ، وصَلَ الجُهلاءُ إلى المراكزِ العِلميَّةِ الَّتي لا يَستحِقُّونها؛ مِن تَدريسٍ وإفتاءٍ ونحوِه، وجعَلَ النَّاسُ منهم عُلماءَ يَسأَلونهم، فيُفتونَ بغيرِ عِلمٍ لجَهْلِهم، فيُحِلُّون الحرامَ، ويُحرِّمون الحلالَ، فيَضِلُّون في ذاتِ أنفسِهم عن الحقِّ، ويُضِلُّون مَن اتَّبَعهم وأخَذَ بفَتْواهم مِن عامَّةِ النَّاسِ. ولا تُغْني المُؤلَّفاتُ والرَّسائلُ وغيرُها عن وُجودِ العُلماءِ؛ لأنَّها لم تُفهَمْ على وَجْهِها الصَّحيحِ بدُونِهم. وهكذا تبقى علوم الشريعة بين هؤلاء الجهال يحكمون فيها بين الناس وهم جهلة، وحينئذ لا يوجد الإسلام الحقيقي الذي يكون مبنيًّا على الكتاب والسنة لأن أهله قد قبضوا،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بهذا الأمر لأجل أن نتحاشاه ونتداركه، ونطلب العلم، حتى لا نصل إلى الحال التي وصفها الرسول (عليه الصلاة والسلام)، فالإخبار بالواقع لا يعني إقراره، فيجب أن نعلم الفرق بين ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مقررًا له، ومثبتًا له، وما أخبر به محذرًا عنه، فالرسول (عليه الصلاة والسلام) أخبر بأن العلماء سيموتون، ويعني ذلك أن نحرص على طلب العلم، حتى لا ندرك هذا الوقت الذي يموت فيه العلماء، ولا يبقى إلا هؤلاء الرؤساء الجهال، الذين يفتون بغير علم، فيضلون أنفسهم، ويضلون غيرهم، وفي الحديث أيضا تحذير وبيان لخطورة سؤال الجهال, وإن تقدموا في الناس, فإن التقدم في الناس على غير علم وهدى, يوقع في الضلال والردى, وما نشاهده اليوم, من توجه الناس بالسؤال إلى كل غاد ورائح, دون تمييز عمن يؤخذوا دينهم فيه خطر كبير, فالحديث يحذر من هؤلاء .
ألا فاسألوا أهل العلم, الذين يستدلون بالكتاب والسنة, ويصدرون عنهما, ويجلون كلام العلماء, ويحترمون مورثوهم العلمي, والذين إذا سئلوا فيما لا يعلمون, قالوا: لا نعلم, أو قالوا: لا ندري, فإن لا أدري نصف العلم, كما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه فليس العالم, هو ما يتكلم بما لا يعلم, كما قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} الاسراء (36)،
فسل من تتوخى إصابته للحق والهدى, وسل من عرفت سلسلة تلقيه, فإن هذا العلم إرث, يحمله في كل خلف عدوله, أما أن يأخذ الناس علمهم عن مجاهيل, فإن ذلك يوقعهم في مظان الهلاك, ويوقعهم في مواقع الردى. والله تعالى أمر بسؤال أهل الذكر، فقال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (7) الانبياء، فاحرص على هذا الوصف فيمن تسأله، وتصدر عنه, وتتثبت فيما جاءك من العلم .
الدعاء